وبحكم أن المنطقة العربية وجهة ارتكاز في الاهتمامات الاميركية , فإن الابتكار الاميركي يقوم على فرضية بسيطة وشديدة الوضوح , مفاده الأولي أن الفراغ حتى لايكون مؤذياً للمصالح الاميركية لابد من تضييقه وحصره في نطاقات محددة , وإن تطلب ذلك جملة من الأمكنة المتقاربة جغرافياً , وربما استراتيجياً ,وبالتالي كلما كانت الحاجة ملحة لعدد أكبر من أشكال الصراع كلما كانت الحصيلة مؤاتية لملئه أميركياً .
وعلى هذا الأساس وبعد فشل تجربة منطقة واسعة واحدة لصراع وحيد , لابد من العمل على خلق عوامل لصراعات متعددة الأشكال والنماذج , تكون في مجملها مبرراً دائماً لبروز الحاجة للوجود الاميركي , أوفي أقل تقدير على حضور طيفه السياسي وفق الشكل أو النموذج الأكثر ملاءمة للأغراض والمصالح .
ولذلك لم تدخر الادارة الاميركية في عملية الاستجابة لذلك الابتكار في العمل على تكريس حالات من الفراغ التي تستدعي نشوب صراعات متعددة , تستمد عوامل استمرارها من التغذية المستمرة لها , وهي لاتحتاج في المحصلة النهائية الى من يحرض بتركيز شديد لها حيث تنتقل إليها العدوى بالتتالي, بحكم الرابط الكلي لهذه الصراعات لأن العوامل المحرضة ذاتها.
من هذا المنظور كان مشهد العبث الاميركي في المنطقة والانتقال من نموذج لآخر , يتحرك بخطوطه العريضة ضمن نطاق الاستجابة الفعلية لذلك الابتكار , إذ حين عجزت عن تمرير مشروعها بكليته , وبروز عوامل ممانعة وقوة رفض لذلك المشروع لم تكن في الحسبان , لجأت إلى استبدال المشروع في التسمية على الأقل , ومع الفشل رغم تعدد التسميات كان لابد من تغيير في التكتيك الذي يجعل من ذلك المشروع حصيلة كمية لمجموع مايتحقق من صراعات جزئية متحركة ومتبدلة وفق الحاجة الاميركية ,وحسب حالة المشروع ومدى التعثر الحاصل فيه.
ربما يحضر هنا ماقاله سيمور هيرش , وماقدمه بالأمس القريب ميزفنسكي وغيرهما الكثير من الأقلام الاميركية الأخرى التي وجدت في صيرورة الفهم الاميركي لتعديل توضعات المنطقة السياسية ومراكز القوى فيها, مدخلاً مهماً لتفسير جملة من المؤشرات الهامة في سياق الممارسة التي تنتهجها الادارة الاميركية .
ولعل الحضور المتتالي لرايس في المنطقة , و المتغيرات الجوهرية في مظاهر التعاطي السياسي على الأقل سواء لجهة تقسيم دول المنطقة بين دول ( مسؤولة )وأخرى ليست كذلك ,أم لجهة الحرص على خلق حلقة اللقاءات الدورية مع مسؤولي الاستخبارات ,وبالتالي ابراز حضورهم العلني على الساحة سياسياً واعلامياً , لعل ذلك يفسر بعض الجوانب ولكنه وفق التسريبات وفي أحيان كثيرة التصريحات العلنية , ليس سوى توطئة لذلك المنهج الذي يحمل في طياته جملة من الاسقاطات التي سنلحظ بعضها في المستقبل القريب .
ويتقاطع ذلك مع الرفض الاميركي وحتى التعطيل في أحيان كثيرة لكل مامن شأنه تخفيف حضور عوامل الصراع الناتج عن عملية مسبقة ومن محاولات حثيثة لخلق فراغ تكون حصيلته شكلاً من أشكال الصراع.