ثمة تجربة في التاريخ تنطق بما يظاهر هذه الفرضية على قاعدة أن المنظور ليس على سنن المستور وما بين المنظور, والمستور تتحرك قوى خفية تحاول أن تصوغ الحياة, وتهيكل الاقتصاد والسياسة, والعدل بما يتوافق مع مصالحها بتوليفات ذكية تبدو لأصحاب الفهم الظاهري أنها منطقية ومتناغمة مع الحراك الإنساني العام للمجتمع المعني, أو للمعني في الدولة صاحبة الشأن, ومن هنا جاءت في أدبيات السياسة مقولة التعمق فيما وراء الظاهر, واحتسب على الفلاسفة كل من يملك نظرة نافذة إلى ماوراء الظاهر.
وإلى ذلك سنجد أن عدم سقوط الرؤيا إلى حلقات ما وراء الظاهر سيبقي عناصر التحليل عند فضاء محدود, ولن يحدث أي تفعيل للعناصرالتنبؤية في الذهن, لتستقر المعرفة على سطح ما يلمس بالحس المباشر, تفتقد إثر ذلك المكونات المعرفية الأعمق التي لا تتشوش بعرض مقصود عبر حدث مضلل أو مجموعة مفارقات رصدت كي تضيع معها الهدفية الرئيسية مما يستحدث خاصة حينما يكون البشر يواجهون صراعات التحكم بالكون عن بعد, أو الإمساك بحركة الزمان, والتاريخ عن قصد, وبعيانية متحدية ليس فيها إخفاء أو حياء.
ويبقى محكوماً بالعرف التاريخي كل منطق يحاول أن يتشكل خارج التاريخ فمن المعروف أن للتاريخ امتداداً إليك ولو لم يكن لك أي امتداد إليه, فالبعض قد يفترض أنه يقود التاريخ عن طريق السير باتجاهه وكأن للتاريخ اتجاهاً معلوماً, واضحاً محدداً بنيات حسنة, والآخر قد يفترض أنه محصن, ولا تعنيه سيرورة التاريخ الملحوظة على سطح شعوره بل يفترض أن حقائقه تكفيه, وليس مستعداً لأن يغوص في أثر حقائق جديدة ويبقى الصناع المهرة للتاريخ أولئك الذين يملكون من العقل الكلي أكثر من غيرهم, ومن الطاقات المادية ما يدعم إراداتهم, ومن القدرة على انتشار تجعلهم أصحاب خارطة أوسع, ومناطق فاعلية أمنع.
والحال عليه فإن ما يميز السيرورة الإنسانية في التاريخ هو اكتشاف الذات, وتوظيف القدرات, وتنافس الإرادات ومن لا يملك المشغل الخاص بهذه العمليات اللازمة يدخل التاريخ أعزل, متعرضاً لصنوف التقلبات, وبالضرورة سيكون دوماً محملاً على خرائط التحديد الجديدة, أو إعادة الترسيم والهيكلة ولا سيما حين يكون العالم مقبوضاً عليه لمصلحة تحالفات كبيرة, أو قوة امبراطورية أكبر.
فالمشغل العقلي في كل زمان يجعل الأمم تأخذ مما لا يعطى بالبساطة, وتعطي مما لا يضر بالأصالة, كي تبقى خيوط التجاذب بينها, وبين من تعيش بين ظهرانيهم في العصور المختلفة سليمة, حية معطاءة وبهذا تكون الأمم المعنية بهذا الشأن قد حجزت لذاتها دوماً بطاقاتها اللازمة لدخول المستقبل المنظور, أما حين يكون للأمم حراك مخالف, ومبني على قواعد بطل العمل بها, أو تجاوزتها العملية الاقليمية أو الدولية بآفاقيات جديدة فإن هذه الأمم تكون هي بذاتها قد وضعت نفسها في غير الموضع التاريخي المطلوب وحكمت على نفسها باستقبال ما سيفرض عليها.
وقد يتساءل متسائل هنا حول مقدار لزومية أن تستدير الأمم ميممة وجهها شطر كل وافد دولي, وخاصة حين لا تكون معالمه محققة للاطمئنان منه..فالجواب هنا لا بد أن يتعلق أولاً بكيفية رؤية كل أمة لذاتها, ونوازعها الداخلية في التغيير, والتغير, وصور تجاذباتها عبر معادلة الداخل, والخارج حتى يأتي المطلوب استحقاقاً لمتحولات التاريخ المعاش بمعايرات ذاتية, ومقايسات وطنية عارفة, ومتعرفة بذهنية التفتح المأمولة, لا أن يأتي فرضاً لاستحقاقات مريبة, قد لا يكون الواقع جاهزاً لاستقبالها, ولا إنسان ذلك الواقع كذلك.
العالم كما تمت مشاهدته, عاش, ويعيش ضمن فلسفات محددة لأطرافه المحددة, ومن غير الطبيعي أن يكون الموجود فيه خارج الوجود, ويدعي فلسفة له, أو لغيره, والظروف الحية على أرض الأمم هي المختبر الأساسي لتصوراتها الحاضرية والقادمة, فالأحياء يحاصصون في ميراث الحياة, أما غيرهم فليسوا على أي حساب, نقول بذلك ونحن لاننسى طغيان الأفكار والنظريات التي تخترعها القوى العظمى وتحاول فرضها على بشرية كوكبنا الأرضي, وتشرعن لها بمنطق حق القوة, أو فلسفة القوة, أو برامج عمل الأقوى نعم إن الكثير من هذا موجود ولعل اللافتة الأبرز في هذ المجال هي قضية الحرية, والديمقراطية على صعيد عالمي, كيف تطرح بمنطق نفي ما عند الآخر, والتقرير القسري من خارج احترام السيادات الوطنية, وحقوق الأمم, وفي ظلال مشاريع كونية لم تخضع بالأساس لديمقراطية التداول فيها, أو لحرية اختيار التبني ,هذا ما حدث في عصور مختلفة وما يحدث في عصر القطب الوحيد المهيمن اليوم, فالسجال العالمي يأخذ أشكاله المختلفة بين الأمم المعنية, وسيبقى ما لنا عناية به, مرهوناً بمقدار حكمتنا, وقوانا في الوصول إليه.
وعلى هذا الطريق نفيد من آراء المؤلف مايكل بارنتي في كتابه: (ديمقراطية القلة) الذي يريد أن يوضح فيه أن المؤسسات التقليدية في أميركا التي تؤلف القلة هي التي تتمتع بالقرار صناعة وتنفيذاً,ومن الجميل أن المؤلف قد تعرض لعهود من الإصلاح في الحالة الأميركية لكنه بقي معها كفاحاً دائماً لقوى ديمقراطية لم تحقق أي إرادة, ذلك لأنه نتاج طبيعي لوضعية السلطة والثروة والطبقة والمؤسسة كما تمت هيكلتها ضمن نطاق المنظمات السياسية المسيطرة, ويعتبر الكاتب أن المؤامرات ¯¯ في قلب النظام الأميركي ¯¯ هي برامج سرية تم التخطيط لها عن وعي من قبل أناس يحتلون مراكز مرموقة, وهي جزء من ترسانة الحكم الهيكلي, لذا لابد للمتنفذين في ترسانة الحكم الهيكلي من المجاهدة للإبقاء على أوضاع حكمها المهيمن فتضيع ديمقراطية الجميع في مثل هذه الصورة, وتكون الديمقراطية للقلة, ويرى المؤلف أنه حتى وسائل الإعلام هي بيد القلة وتوجه إلى الكثرة, ويخلص الكاتب إلى مقولة كيف يحق للإدارة الأميركية الحديث عن تصدير الديمقراطية باعتبارها تنطلق من مصالح قلة تدعو إلى استنزاف العالم من أجل مصالحها الخاصة.
وهنالك ـ أيضاً ـ من يقول بديمقراطية النخبة بدلاً من ديمقراطية الشعب على قاعدة أن الذين ينتخبون العالم اليوم ـ بكل اختصاصاته الدقيقة ـ هل من المعقول أن يعطوا حق قيادته لمن لا ينتخبون شيئاً?!
هذه هي فرضيات عالم الأقوى اليوم, فهل من الممكن أن نوجهها, أو نتساهل معها دون موقف يفترض فيه أن ينطلق من إظهارنا المبدع لقدرتنا المتنامية في الوصول إلى ماوراء الظاهر حتى لا تباغتنا التحولات, ولا تعكر أمزجتنا الرسالات الموجهة إلينا على كافة الأشكال, والإشكاليات??
فالعرب يمثلون الأمة الأولى المرصودة على جغرافية إعادة الهيكلة وما تتبناه ديمقراطية البرامج السرية من القطب الوحيد المهيمن, ومن الصهيونية التي تخطط لتصبح إسرائيل أكبر مركز إقليمي ودولي, لا حياة للعرب دون الاعتماد عليه, فالمشروعان الشرق أوسطيان يستهدفان فينا كل شيء فهل يبقى ما بيننا مما نختلف عليه, ويباعد.. إذا كنا عرضة لمشاريع لن نرى فيها من سيادات الأمم إلا الذي عصي على الاستباحة, والاختراق بفعل عناصر تكونه الداخلية??