هل أنا الذي وضعتها في هذه المتاهة، أم أن أحداً ما حملني وأنا نائم وألقى بين في هذا المكان؟
أذكر أنَّني كنت أسير دون أن أنظر إلى البعيد، ولم أفكِّر في نهاية طريقي حتى وجدتُ نفسي فجأة فيه القصة أنني:
أحببتُها تلك الفتاة الصاخبة.. أحببتُ حسنها البديع وأناقتها، التفاف الجامعيّين حولها.. هي تلميذتي التي لم تتجاوز العشرين ربيعاً وأنا قد تجاوزت الأربعين خريفاً.
ابتدأت أختلط مع جموع الطلاب والطالبات أتبسّط معهم بالحديث و الطرَف، أجلس في المقصف في فترة استراحتي بعد إلقاء محاضرتي.. بل حتى أنَّني بدأت أتقبّل دعواتهم لحفلات أعياد الميلاد، أو لتناول الغداء.. علَّ الظروف تجمعني وإيّاها. لم أعد ألم نفسي بل أُخذت بمتعة مراقبتها، وانسقت كقشة في تيّار حبٍ جارف.
كنت في المقصف وحدي، أنتظر قدوم هديل. عرفتها من قلبٍ يضطرب، ويدين ترتجفان فتغادر ذرات القهوة الفنجان.. رأيت هديل تأتي مع زميل لها ويجلسان معاً كانت تستمع إليه بإصغاء يفوق إصغاءها لمحاضرتي. إنها تبتسم، لا شكَّ أنَّه يغازلها ذلك اللّعين. كتمتُ غيظي وغضبي ظلّت نظراتي مشدودة إليها ما جعلها تلاحظ. التقت نظراتنا. هززتُ رأسي أشرت بيدي طالباً إيّاها.. استأذنَت من زميلها، وبخطواتٍ رشيقة اقتربت منّي وعلى وجهها علامات الخوف والاستفسار. ابتسمتُ لها، اضطَّربت، أشرتُ لها على مقعد أمامي:
-هلأّ جلستِ يا هديل؟
-طبعاً أستاذ.
جلسَت أمامي كطير وديع حطَّ على غصن شجرة، نظرت إلى يديها وما تلبس في أصابعها الظريفة من خواتم لها طابع الذوق الرفيع.
-ماذا تشربين؟
-عصير البرتقال.
نظرَت لعينيَّ، اخترقت نظراتها كياني، وجزّأته. نسيت نفسي في هاتك العينين الساحرتين. إن الثروة التي جمعتها، والسيّارة التي أمتلكها، والمركز الذي أشغله والراتب الذي أقبضه كلّ هذا سيصبح لها.. ليس هناك غير فارق السن يقف سدّاً غير منيع كما آمل له.
لَم هذا التخوّف من باب لم أطرقه بعد؟ قد يُفتح لي بسهولة! كيفَ أحببتها؟ لا أدري. ترى هل عواطفنا ليست في نطاق سيطرتنا؟ هل ضاعت كلّ تقديراتي وبحوثي ونقدي وتحليلي للنفوس؟ لم أكن أحب الفتيات الساذجات.. كنت أميل إلى النساء اللواتي يظهرن أمراً ويخفين غيره، كنت لا أحبهن، إلا من قشور القلب لا من نبضه. أمّا هديل هذه، فلم أكلّمها إلا لأطلب منها الزواج، إنها كالماء الرقراق أمام ظامئ تعب، قد أتعبته مشاوير الحياة الطويلة والمعقدة. آن لي أن أستقر في بيتٍ، مع رفيقة عمر، وأولاد. آنَ لي أن أستنير بنور الحبِّ قبل أن تُطفأ أضواء نفسي وقلبي إلى الأبد.
هديل كنتُ أسمع رنين ضحكاتها من بعيد. ضحكة متحرّرة صافية براقة، لا زيف فيها ولا مجاملة، إنها تضحك، تغضب، تناقش، تحب، وتتفوّق في دراستها أيضاً.
رأيت حبيبتي هديل تتابع انسياب أفكاري بعينيها الوحشيّتين، قلت لها:
-الحقيقة.. لا أعرف كيف أبتدئ الحديث معك.
- أستاذ، قل ما تريد بكلِّ بساطة.
-هل تقرئين الكتب الفلسفيّة؟
-أنا ذاتي كتاب فلسفي.
-هل لي أن أقرأ عنوانه؟
-عنوانه شكله الظاهري، وأسطره بحر لا قرار له.
-دعيني أغوص في بحر ذاتك.
-صعب عليك.
-ساعدي أستاذك يا هديل.
-وهل نحن في قاعة محاضرات؟
خجلت، اعتذرت، تصبّب اضطرابي.. وصل الكوبان من عصير البرتقال. وضعتُ أمامها كأسها.
-تفضّلي يا هديل.
-كيف عرفتَ اسمي؟ ولماذا ناديتَني؟
-سمعتُ صديقتك تناديك مرّة فعرفت اسمك.. وأنا لم أناديكِ بل قلبي، إنني أحبك يا هديل.
-وماذا يعني الحب بالنسبة إليك؟
-أريدكِ أن تكوني زوجة لي.. ما رأيكِ؟
صمتت، ورمقتني بنظرة غضبى، كأنهَّا تقول لي، هل عليّ أن ألغي حياتي كلّها من أجل طلبك هذا؟
أعصابي تنتظر الجواب، مشاعري تلتهب كشعلة نار أصبحت في دوّامة رهيبة، أحسست أني بضاعة في كفتّي ميزان. لم أعد غير قلب خفّاق، قد فَرِغ مما به كما قد فَرغ كوب العصير.
-إذاً يا هديل.. ألا أستحق حتى الجواب؟
فجأة استأذن زميلها وانضمَّ إلينا بعد تحية، هلَّلت له هديل، تبادلا النظرات والهمسات. كبرا أمام ناظري، أصبحا كالأهرامات، تضاءلتُ أنا حتى لم يعد لي وجود.. استأذنا بالانصراف.
بقيت وحدي، سمعت ضحكتها، كطرقاتِ المطرقة على شيء صلب. دوّامة لولبيّة من الغبار اقتلعتني من مكاني، وقذفت بين إلى مجاهل الصحراء.