التي عانى فيها من عنف الذات وعنف الآخر، وانتهت بمأساة كرست هذه الصورة، وزادت من تعلق الناس بفنه الذي كان أول من حقق أسعاراً مرتفعة في المحترف السوري، ما جعل لوحة الفنان كيالي، مطلوبة بإلحاح هذه الأيام، وثمة تنافساً محتدماً، بين أصحاب صالات العرض الخاصة وجامعي اللوحات والمواطنين،
على الساحتين السوريّة والعربيّة الآن، للحصول عليها، رغم تجاوز ثمنها المليون ليرة سوريّة، الأمر الذي أغرى البعض من الفنانين «لا سيما في مسقط رأسه حلب» للقيام بتقليدها ونسبها إليه، وهي لوحة نادرة، أي غير متوفرة، لأن ما أنتجه الفنان كيالي خلال حياته، مقارنةً بم أنتجه مواطنه الفنان فاتح المدرس، يُعتبر قليلاً جداً، وهذا سبب آخر من أسباب ازدياد الطلب على لوحة كيالي.
والحقيقة أن مجريات حياة الفنان كيالي وفصلها الأخير الذي شهد موته حرقاً وهو في محترفه بحلب، من العوامل الإضافيّة التي لفتت الانتباه إليه وإلى فنه الذي رغم تلونه وانعطافاته الكثيرة، لم يغادر الصيغة الواقعيّة.
التزم كيالي في فنه الموضوعات الإنسانيّة والوطنيّة والقوميّة، وعبر عنها بمجموعة كبيرة من اللوحات التي حملت في العقد الأخير من حياته، التزاماً لافتاً بالقضايا الوطنيّة والمعذبين والفقراء والمنتجين الصادقين البسطاء الطيبين من شعبه. حيث كرس فنه «لا سيما بعد العام 1970» للأمومة، والباعة الجوالين، والصيادين، وماسحي الأحذية، وبائعي ورق اليانصيب، والمعوقين، والعاملين في الحقول، وربات البيوت، والمشردين البؤساء. كما رسم الأزهار والطبيعة الصامتة وبلدة «معلولا».. وكان في أعماله كافة، رقيقاً، شفافاً، هادئاً، صادقاً.
ولكي تصل هذه المواضيع إلى أكبر شريحة من الناس، قدمها بلغة فنيّة واقعيّة مُبسطة ومختزلة، اعتمد فيها على الرسم كقيمة تشكيليّة وتعبيريّة رئيسة، وعلى المساحات اللونيّة الواسعة والشفافة وذات الدرجة الواحدة.
للفنان كيالي آراء لافته، تتعلق بجملة من الأمور والقضايا والإشكالات الفنيّة، وتعكس، في الوقت نفسه، موقفه الخاص منها. من ذلك موقفه من النقد الفني الذي عانى كثيراً منه وكان سبباً رئيساً من أسباب اختلال حياته، ومرضه النفسي والجسدي. يقول كيالي: «إن لم يكن الناقد أعلى مستوى من الفنان، من حيث الثقافة الفنيّة، فإنه يجب أن يكون في مستواه، هذا إذا تناسينا قضية الإحساس في العمل الفني التي هي أهم مقوماته، ونحن لم نزل بحاجة إلى إنسان حساس، يوازي الفنان بحساسيته، ومثقف يفوق الفنان بثقافته، ومتجرد يحس مسؤولية الكلمة التي يتبناها عن يقين وإيمان».
وحول قضية الالتزام في الفن، يؤكد الفنان كيالي أنه حينما «يتخذ الفن مضموناً جديداً في الرصيد الفكري، ويصبح شكلاً من أشكال الوعي الاجتماعي، يكتسب طابعاً نضالياً، وهذا «في جوهره» يعني تمرداً على الواقع، ورفضاً له، وما دام الفن مرتبطاً بالواقع ارتباطاً جذرياً، فإنه لا بد أن يرتبط بواقع الثورة».
ويرى الفنان كيالي أن الفنان ليس سوى إنسان يريد أن يقول شيئاً «كغيره من الناس» وهو لا يختلف عنهم إلا أنه يُعبّر عن مشاركته الوجدانيّة لهم من الأعماق، نتيجة حساسيّة مرهفة بالحوادث الحياتيّة حتى في أدق جزيئاتها وأشدها التصاقاً بإنسانيّة الإنسان. وقد تصل هذه الحساسية لديه إلى درجة الإفراط، وحتى درجة التوتر النفسي «كما حدث للفنان فان كوخ» الذي دفعه حبه للناس الذين لم يفهمون ولقبوه بالمجنون، إلى أن يقطع أذنه ليقدمها إلى امرأة أُعجبت بها، تعبيراً عن محبته لها.
إن عطاء الفنان «كإنتاج» نتيجة منطقية لعطائه «كحياة» هو نتيجة شعوره في أنه يعيش ويشارك الآخرين نتيجة إحساسه بحاجتهم إليه، وحاجته إليهم. يريدهم أن يفهموه، كما يحاول أن يفهمهم. وهو يريدهم أن يتقبلوه أو يرفضوه كما هو، كما يتقبلهم أو يرفضهم كما هم. هذا القبول أو هذا الرفض، يشعرهم جميعاً بديناميكيّة الحياة، وبتواتر الانفعال، وذبذبات الإحساس.
إن القبول يولد تعاطفاً وتجاوباً بينهم ككل، ومن ثم انسجاماً في الأهداف والمنطلقات في البقاء في سبيل حياة ومجتمع أفضل، وعلى مستوى إنساني، ولا بد من أن هذه الأهداف والمنطلقات في البناء ستنعكس في إنتاج الفنان، ما دام يعيشها كحياة بصدق، ويريد التعبير عنها بصدق.
ويعتقد الفنان كيالي أن الإنسان لا يطالب بالصدق طالما هو صادق، وأنه من العبث مطالبة الإنسان بالصدق ما دام كاذباً. على هذا الأساس، فإن الفنان لا يطالب بالالتزام في إنتاجه، لأن الالتزام نابع من أعماق ذاته، وهذا هو الالتزام الحقيقي في الفن، لأن الفن عطاء، والعطاء استمرار في العطاء دون إلزام، لكن يحق للآخرين أن يطالبوا الفنان بالالتزام كإنسان له مواقفه الحياتيّة في القول والتصرف، لأن إنتاجه لابد وأن يكون انعكاساً حقيقياً لمواقفه الحياتية تلك.
وهكذا قد يكون الالتزام ضرورياً للفنان، ولكن يجب أن يكون التزامه كإنسان أولاً، وكمنتج ثانياً، لأن التجارب الحياتيّة تعمق فكرة الالتزام في أعماقه وتزيدها وضوحاً وأسراراً وثباتاً في إنتاجه.
وينتهي الفنان لؤي كيالي إلى نتيجة مفادها أن التزام الفنان تأكيد لتحقيق إنسانيته، من مشاركته الوجدانية «قولاً وفعلاً وإنتاجاً» في بناء حياة ومجتمع أفضل، وعلى مستوى إنساني.
ولد الفنان لؤي كيالي في حلب عام 1934. بدأ الرسم مبكراً. أقام أول معرض شخصي في قاعة الثانويّة الأولى بحلب عام 1952. بعد حصوله على شهادة الدراسة الثانويّة العامة العام 1954
التحق بكلية الحقوق في جامعة دمشق حيث شارك بمعرض الجامعة السوريّة وفاز بالجائزة الثانية. أثناء دراسة الحقوق حصل على بعثة من قبل وزارة التربية «المعارف سابقاً» لدراسة الفن في «روما». امتدت دراسته فيها من عام 1957 إلى عام 1961 حصل بعدها على شهادة أكاديميّة الفنون الجميلة «قسم الزخرفة» وعاد إلى سوريا ليُعيَّن مدرساً للتربية الفنية في ثانويات دمشق. في العام 1962 انتقل للتدريس في المعهد العالي للفنون الجميلة «كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق حالياً».
أقام الفنان كيالي العديد من المعارض الفرديّة داخل سورية وخارجها، لعل أبرزها وأهمها وأكثرها إثارة للجدل، المعرض الذي أطلق عليه عنوان «في سبيل القضية» الذي أقامه في المركز الثقافي العربي بدمشق العام 1967 ونقله إلى حلب وحماة وحمص واللاذقيّة. ضم هذا المعرض «الذي منه انبثق اضطراب حياته وأزماته المتلاحقة» ثلاثين لوحة تحدثت عن قضية فلسطين وتداعياتها العربيّة، نفذها باللونين الأبيض والأسود.
لاقى هذا المعرض التجريح والانتقاد من قبل بعض الفنانين والنقاد والكتاب السوريين، الأمر الذي دفعه إلى التأزم وتمزيق أعماله والتوقف عن الرسم. بعد نكسة حزيران، ازدادت أزمته، فانقطع عن الحياة العامة واعتكف في بيته. عُولج العام 1969 في بيروت، فتحسنت حالته، وعاود حياته العامة مطلع سبعينيات القرن الماضي، حيث عاد للتدريس في كلية الفنون الجميلة بدمشق. بعدها عاودته الأزمة، ثم تعافى مرة ثانية حتى العام 1977 حيث غادر للعيش في إيطاليا، لكنه ما لبث أن عاد إلى حلب العام 1978 بعد انتكاسته الثالثة. وهناك أدمن على تعاطي الحبوب المهدئة. ليل 9 -10 سبتمبر «أيلول» 1978 احترق وهو في سريره، وعلى الرغم من محاولة إنقاذه، فارق الحياة في 26/12/1978، تاركاً إرثاً فنياً ثراً، تتوزعه اليوم مطارح مختلفة من سوريّة والوطن العربي، يعكس بأمانة وصدق، مراحل حياته العاصفة، بدءاً من مرحلة الدراسة الأكاديميّة في إيطاليا، وبراعته بتصوير الموضوعات الإنسانيّة بثراء لوني، وإمكانية كبيرة في الرسم الواقعي المعُبّر، مروراً بمرحلة الرسوم التي انتصر فيها للقضايا الوطنيّة والقوميّة، وانتهاءً بمرحلة رصده الصادق والنقي للمهمشين في الحياة السوريّة، الباحثين عن لقمة العيش بعرق الجبين، وتعب الأيدي، تحت لفح الريح، وحرارة الشمس، والبرد القارس.
وهذا التوجه اللافت في تجربة الفنان كيالي، جاء رد فعل على ما عاناه من ظلم الإنسان له، هذا الظلم الذي أخذ شكلين متباينين: الأول تجسد في محاولة البعض سلخه عن بيئته الاجتماعية التي كوّنته، بجعله فنان الثورة خلال عقد الستينيات من القرن الماضي، والثاني تجسد في الهجوم الشرس عليه وعلى فنه، من قبل كتّاب ونقّاد الصحف المحليّة، عقب إقامته لمعرضه الشهير «في سبيل القضية» والذين «كما يبدو» كانوا يتابعون ويترصدون تحولاته قبل هذا المعرض.
لقد احتضنت لوحات الفنان لؤي كيالي حالة الصعود والنزول، والنضارة والشحوب، والحرية والأسر، والحزن والفرح، والانكفاء والانطلاق، والمرض والعافية، التي عانى منها في حياته. ومع ذلك ظلت تنضح هذه الأعمال، بالنبل والمحبة والصدق والحميميّة والبساطة. المدهش في فن كيالي، قدرته على التعبير عن كل هذه القيم الإنسانيّة، بأقل ما يمكن من المفردات التشكيليّة، الأمر الذي جعل من تجربته الفنية بصمة متفردة في التشكيل العربي المعاصر، تروي بحزن مأساة فنان قتلته تنظيرات قصيري النظر من الكتّاب والنقّاد ومراهقي السياسة الثورجيّة!