إلا أن ثمة سمات عامة تطبع قصصهم يمكن أن نجملها في أربع نقا ط، أولها: خفوت النبرة الإيديولوجية التي هيمنت على القص إلى حدّ بعيد ابتداء من سبعينيات القرن الماضي حتى مطلع التسعينيات. وثانيها: البعد عن اللغة الإنشائية والزخارف والتزيينات البلاغيـة، والانثيالات الوجدانية. وثالثها الإخلاص لمفهوم مبدأ الوحدة القائم على وحدة الفكرة والحدث والهدف والانطباع والأثر.
ورابعها: اللعب الفني في استثمار تقنيات الاسترجاع والحذف والتلخيص والوصف والحوار.
ويمكن التوقف عند كل قصة على حدة لتحليل بنيتها شكلاً ومحتوى، وبيان دلالتها وأثرها على ضوء قراءتنا وفهمنا واستقبالنا المحدّد لخطابها ونظام علاماتها.
«رسالة حب» «1» لمحسن يوسف
تصور هذه القصة على مستوى المضمون علاقة حب بريئة وجميلة ونبيلة بين الجارين الصغيرين محمد العربي المسلم وآزو الأرمينية المسيحية، علاقة تتجاوز حدود التمترس الإثني والديني لتحلّق في الفضاء الإنساني الرحب. وإذا لم يكتب الاستمرار لمثل هذه العلاقة، ولم تتوّج بالزواج، فلا يعني ذلك موت هذا الحب الذي عبّر عن نفسه بالدم الذي تبرّع به محمد لشقيق حبيبته القديمة آزو منقذاً بذلك حياته وموصلاً رسالة حبه إليها، تلك الرسالة التي كتبت بدمه، الدم الإنساني الذي يسمو على كل الاعتبارات الأخرى، دم التآخي والتعايش والاعتراف بالآخر تحت سقف الوطن الواحد. تلك هي رسالة الحب، ورسالة القصة التي حملت عنوانها أيضاً. وبتناغم العنوان مع محتوى ودلالة السياق السردي يؤدي وظيفته الإيحائية والإفهامية التي تتوخّى ترسيخ مضمون وغاية هذه الرسالة في عقول وقلوب القرّاء.
وإذا انتقلنا على مستوى الشكل من العنوان إلى الاستهلال، فإن الجملة الأولى تضع المتلقي في مناخ رومانسي آسر لا يتوقف عند الوصف الفيزيقي لتقاسيم وملامح الحبيبة آزو بل يوغل في تصوير روحها عبر وصفها بالخلية التي تفيض عسلاً وبالزهرة المسكرة وبالمهرة التي تعشق السهول والغابات وترمح في القلوب. وبذلك لا يكتفي الوصف في الاستهلال بأداء وظيفته التزيينية، إنما يتجاوزها إلى الإيحاء والترميز الذي يوسّع أفق التخييل والدلالة.
ويتتابع السرد في «رسالة حب» عبر ضمير المتكلّم على لسان الراوي المشارك الذي يوهم بتطابق صوت المؤلف الضمني مع صوت المؤلف الحقيقي، ما يضفي على المروي مسحة من صدقية التجربة وحرارتها، ويحفّز المتلقي على القراءة والتأويل للوصول إلى المنتهى والغاية. ويتوزع البرنامج السردي بين برهتين ومسافتين تتناوبان بتناوب الحدث ما بين الراهن والماضي المستعاد عبر تقنية الاسترجاع، ويتخللهما حذف لمراحل زمنية يسهم في تسريع وتيرة السرد، وينأى بالإيقاع الدرامي عن الاستطراد والترهّل.
وبتضافر تصوير الأفعال من خلال الحدث، والأقوال من خلال الحوار، يتحقّق التناغم بين القول والفعل، وتظهر الشخصية القصصية بسلوكها ونوازعها من زوايا متعدّدة. ما يعزّز إمكانية التأثير في المتلقي وتكوين وحدة الانطباع والأثر لديه.
لقد صوّرت هذه القصة موقفاً إنسانياً نبيلاً، وسعت لإيصال رسالة في المحبة والتعايش الأخوي، بعيداً عن المباشرة، ما يحقّق الوظيفة الجمالية للفن في تقديم المتعة والمعرفة في آن معاً. لكن ما يؤخذ عليها من الناحية التقنية أنها تخلط ما بين الزمن القصصي الذي يتطلب التكثيف والتركيز على لحظة أو خلجة أو موقف بعينه، والزمن الروائي الذي يمتد ليغطي حقبة طويلة من حياة الشخصية. فبدت بعض العبارات ناشزة مثل: «بعد سفرها بأعوام»، و»في الأيام التالية»، حيث عرّضت بنية القصة الزمنية للتشرّخ والخلخلة. كما أن اقتحام صوت المؤلف الحقيقي للبرنامج السردي أحياناً كما في قوله: «وهل يستطيع الفلسطيني أن ينسى القدس؟» بدا غير مقنع، وخارج السياق. باستثناء هاتين الملاحظتين فإن قصة «رسالة حب» مشغولة بحرفية عالية، من العنوان والاستهلال إلى القفلة التي تنفتح على احتمال وصول هذه الرسالة إلى القراء عامة في كل مكان وإلى «آزو» خاصّة، وإدخال البهجة إلى قلبها وروحها.
«فتاة الغابة» «2» للدكتور محمد الحاج صالح
ينهض السرد في هذه القصة على غرار سابقتها بضمير المتكلّم على لسان الراوي المشارك الذي يتمحور الحدث حوله عبر علاقته بـ «فتاة الغابة»، وعلى الرغم من وقائعية السرد وارتباطه بتجربة معيشة تشي بصدقية الراوي وحرارة التجربة إلا أن ثمة التباساً وغموضاً شفافاً يسربله، فيضع الراوي ومعه المتلقي في حالة أشبه بالحلم الذي يتنازعه الواقع، فيتساءل في حيرة أين يبدأ الواقع وأين ينتهي الحلم، أم أن الواقع والحلم متداخلان في حياتنا إلى الحد الذي لا نستطيع الفصل بينهما؟
ففتاة الغابة التي تتسلل إلى الشاب محمد في الحلم سرعان ما تتحول إلى واقع عندما تزوره في عيادته، وما إن تغادر العيادة حتى تصبح حلماً من جديد! إنها الواقعية السحرية في الفن وفي الحياة، الواقعية التي تشكّل انزياحاً عن الواقع الموضوعي، فتنفتح على فضاء التخييل الذي لا يعترف بوجود تخوم بين الواقع والحلم. وفي سياق هذه اللعبة الفنية القائمة على ثنائية الحضور والغياب، والغابة والبحر، والأنوثة والذكورة، والحقيقة والخيال، تصبح الفتاة شجرة وعصفوراً وأرنباً وحتى ذئباً! ألا تشي «فتاة الغابة» التي حملت عنوان القصة بالعودة إلى الطبيعة البكر، الطبيعة الغامضة الساحرة؟ أليست هي الحلم بالنقاء الفطري والأنوثة المطلقة المنزّهة عن صغائر الحياة اليومية التي تجرفنا بتياراتها الاستهلاكية الصاخبة؟ مثل هذه الأسئلة وسواها ستراود القارئ، وتثير مخيّـلته، وتستدعي مشاركته كمتلق فاعل في التأويل والدلالة، وذلك هو الفارق بين نصّ ستاتيكي يستسلم لقارئه، ونص ديناميكي يحفّزه ويطلق مخيلته ويثير تساؤلاته.
وتأتي قصة «فتاة الغابة» لتشكّل علاقات تناص مقيدة مع مجمل التجربة الأخيرة للدكتور محمد الحاج صالح ولا سيما في قصصه: «الراعية المجنونة»، و»النحّات»، و»يوم في حياة مجنون»، و»الحمار والسمكة». وهي لا تقع في فخ الفانتازيا المحضة، أو الغرائبية المجّانية، إنما تحاول أن تعزّز الواقعية السحرية وتذهب بها إلى أبعد مدى، في سياق جمالي معرفي ممتع ومن دون تغييب للنزعة الإنسانية أو قفز على غائية الفن.
وإذا كان فن القصة القصيرة في أحد تعريفاته هو فن الأبعاد المصغّرة، والاقتصاد في التعبير، ووحدة البناء والأثر، والتأكيد على النهاية بوصفها نخاع البداية ولبابها وذروتها على حد تعبير إيخنباوم، فإن قصة «فتاة الغابة» تتمثّل هذه المعايير، فتبدو الجمل القصيرة المكثّفة الموحية، ملمحاً بارزاً فيها، كما يرتبط الاستهلال بالنهاية معزّزاً وحدة البناء والانطباع والأثر، حيث تبدأ القصة بالحلم وتنتهي به، وما بين الحلم والواقع تتوالى الأحداث في إيقاع متسارع لا يشوبه إلا بعض التعبيرات الزمنية المترهّلة الناجمة عن الحذف أو التلخيص كما في قوله: «مضت أيام وكبرت والحلم يتكرّر» أو: «مضت أيام طويلة شغلتني الحياة والدراسة»، ومثل هذه التعبيرات أقرب إلى الخطاب الروائي منها إلى الخطاب القصصي.
إن قصة «فتاة الغابة» هي قصة المرأة/ الحلم في النهاية، والتي ما أن تصبح حقيقة حتى تفقد بريقها، ولذا ظلت حلماً صعب التحقق والمنال بالنسبة إلى الراوي الذي يتطابق صوته واسمه وكذلك مهنته مع صوت واسم ومهنة المؤلف الحقيقي وربما كان ذلك إمعاناً منه في إيهام المتلقي بحقيقة ما حدث له، فإلى أي حدّ سنصدّقه أو لا نصدّقه لا ندري، وتلك مأثرة أخيرة تضاف إلى هذه القصة/ الحلم.
«المهر الأبيض خميس» «3» لمحمود الوهب
القاص محمود الوهب له صوته الخاص في المشهد القصصي السوري، فهو لم يتوقف عند اتجاه فنيّ محدّد في كتابة القصة بل مزج بين اتجاهات متعدّدة كالواقعية، والرمزية، والفانتازية، وإن كان الواقع الحيّ بما يمور فيه من تناقضات يشكّل مرجعيته الرئيسة في كل ذلك. فبدءاً من عمله الأول: «تخاريف العمّ لطوف» نلمح لديه نزعة عجائبية في تصوير شخصياته، تشدّ القارئ وتثير مخيلته، وهو لا يتخلى عن هذه النزعة في عمليه الآخرين: «إشراقات الزمن الماضي»، و«سفر»، لكنه يهتم أكثر بتنويع أشكاله الفنيّة، فيوظف تقنية «القرين»، ويسعى إلى الترميز الشفّاف للتعبير عن مقاصده الخفيّة والمعلنة.
وفي هذا السياق تأتي قصّته: «المهر الأبيض خميس» التي يتوالى فيها السرد عبر مسارين متكافئين، متناغمين، الأولّ واقعي: يخلص في تصويره لعناصر البيئة الريفيّة ومفرداتها من مكان وشخصيات ولهجة وعادات، والثاني ترميزي ينبثق من معطيات المسار الأول ذاته.
ففي المسار الواقعي للأحداث نتعرّف إلى «عيد» صاحب المهر جيّاش الذي يريد بيعه في بازار القرية على الرغم من محبته له وتشبثه به، نظرا إلى حاجته للمال، ومن هنا يأتي طلبه سعراً باهظاً ثمنه تعبيراً عن تردّده في بيعه! كما نتعرّف إلى عامر المعجب بالمهر والذي يوافق على الثمن بعد أخذ وردّ مع «عيد» وتدخّل السمسار بينهما ويشتري المهر ويطلق عليه اسم: «خميس». ثم يظهر بعد ذلك المختار الذي يستغفل عامراً ويأخذ المهر الأصيل من زوجته حسنى بدعوى حاجته إليه للذهاب إلى الناحية، لكنه كان يضمر غير ذلك إذ استغل الفرصة وفلح أرضه عليه، ممّا أودى بحياة المهر قهراً، ودفع عامراً بعد اكتشاف الأمر إلى تقلّد البارودة الروسية والانطلاق صوب المختار للأخذ بثأر المهر.
هذا السياق الواقعي بأحداثه ومنطوق شخصياته وبيئته ومقدّماته ونتائجه تمّ سرده فنيّاً عبر ذاكرة عامر الذي يستعيد رحلته مع المهر من لحظة شرائه حتى لحظة ذبوله وموته. وتكسر هذه الاستعادة رتابة السرد التقليدي القائم على التسلسل من جهة، كما تحفّز ذهن المتلقّي على الربط بين الأحداث والتفاعل معها بوصفه فاعلاً في إعادة صياغتها وتخيّلها لا منفعلاً بها فحسب.
وفي المسار الثاني الترميزي ينفتح السرد على التأويل فيتحوّل المختار إلى رمز للقوى المستغلّة الانتهازيّة التي تقدّم مصالحها على حساب حقوق الآخرين، وتضع الأمور في غير مواضعها، كما فعلت بالمهر «خميس» الذي ذهب ضحيتها، وهو يرمز بدوره إلى القوى الحية والأصيلة التي تفضّل الموت على إلحاق الأذى والإهانة بها. أمّا عامر الذي ينتفض للثأر فهو رمز لثورة صاحب الحقّ على مستغليه ومحاسبتهم حتى لا يتمادوا في هدر كرامات الناس.
وفي هذا السياق الترميزي تبدو رحلة عامر على ظهر المهر خميس إلى قمة الجبل شكلاً من أشكال تحقيق الحلم والتحليق في الأمداء البعيدة كلما توفرت الإرادة والأداة في آن معاً.
إن التناغم بين المسارين الواقعي والترميزي هو ما يفتح آفاق التأويل أمام القارئ، ويمنح هذه القصّة دلالاتها المتعدّدة، عبر لغة متعددة المستويات ما بين المستوى الشاعري، والعامي، والفصيح، الذي يتناسب مع منطوق الشخصيّات والراوي، بعيداً عن التعقيد والتقعّر والإغراق في الرموز المستغلقة.
وإذا كان هناك من ملاحظات فهي تتمحور حول ثلاث نقاط:
ـ أولها أن شخصيّة المختار بوصفها رمزاً للتسّلط قد استهلكت في أعمال قصصية عدّة، وحبّذا لو حلّ مكانها أحد رموز الفساد والتهريب.
ـ وثانيها أن البيئة تكاد تلتبس على القارئ ما بين بيئة ريفية أو بدوية محضة، سواء عبر اللهجة أو جغرافيا المكان، والفرق بينهما كبير جداً.
ـ وثالثها أن العنوان تقليدي ولا يشي بأبعاد ترميزية أو دلالية تنفتح على النّص، ويكتفي من وظائفه الفنيّة الكثيرة بالإشارة إلى الثيمة المحورية في القصة فحسب.
لقد قدّم محمود الوهب قصّة تحيل على الماضي في حدثها وشخصيّاتها بالقدر الذي تحاكي فيه الحاضر وتنفتح عليه، وهنا تكمن أهميتها، ومشروعية انتمائها إلى الفن القصصي الذي يقول شيئاً ويلمّح إلى أشياء كثيرة.
--
الهوامش:
«1» ـ من مجموعته «كالذكريات»، دار الحقيقة، 2009م.
«2» ـ من مجموعته «الراعية المجنونة»، الهيئة العامة السورية للكتاب، وزارة الثقافة، 2007.
«3» ـ من مجموعته «صمت» دار نون4، حلب2013م.