تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الفن من أجل ذاته

الملحق الثقافي
4-6-2013م
د. رحيم هادي الشمخي:عندما نحاول تقييم الإبداع اليوم وإلقاء نظرة بانورامية على حياتنا الثقافية العربية لا نستطيع أن نمنع أنفسنا من المقارنة بين الفن والإبداع أمس واليوم.

والحقيقة أن الذاكرة عندما تشرد وتغوص في أنهار الإبداع الغامرة قد تصيبنا بالإحباط والمرارة. فالإبداع هو مرآة المجتمع ومرآة الزمن والعصر الذي يمتزج به ويعبر عنه. ففي الأدب على سبيل المثال كنا نجد من يموت حباً وعشقاً وتضحية في سبيل الآخر، فعرفنا من خلال الأدب الحب حتى الموت في أعمال «كغادة الكاميليا» لدوماس و»روميو وجولييت» وشخصية أوفيليا في «هاملت» لشكسبير و»قصة مدينتين» لتشارلز ديكنز و»مرتفعات وذرينج» لبرونتي. وعرفنا أيضاً من خلال تراثنا العشق حتى الفناء والتلاشي من خلال قيس وليلى ونتذكر أيضاً ماجدولين للمنفلوطي، ورواية إني راحلة ليوسف السباعي.‏‏‏

‏‏‏

الحب بالأمس كان يصل إلى حد الحريق والجحيم والغرق والرحيل والغناء من أجل من نحب، ولكن في زماننا هذا لم يعد شيء يدوم طويلاً، فكل شيء أصبح عمره قصيراً عليلاً، هزيلاً، وكل شيء يذبل سريعاً ويموت من حولنا بداية بالحب وانتهاء بكل القيم التي كانت.‏‏‏

لم يعد الموت فقط هو رحيل من تحبهم، بل أصبح الموت يصيب كل الأشياء من حولنا. لم نعد نبالي أو نكترث به بل ألفناه، فهناك طبقات بيننا وبين الأحداث سميكة داكنة، قاتمة عازلة من البلادة والخدر والأنانية. وأصبحنا نبدل البشر ببساطة وسهولة مثلما نبدل الأشياء. إننا في عصر تعجيل النهايات بل استجدائها، نريد أن ينتهي من كل شيء سريعاً أن نفرغ منه. ففي الحب حرقت المراحل التي تجعل العاطفة أكثر عمقاً. واختصر الوقت واختزل الزمن، فأصبحنا حتى في الحب نعدو لاهثين، وأصبحت العلاقات تنتهي وتجهض قبل أن تنضج. ولقد عبر الأديب الفرنسي ستندال في كتابه «عن الحب» وحلل تلك المشاعر من خلال ما أسماه بالتبلور في الحب. أما اليوم فالحب أصبح وجبة سريعة، أصبح الحب على الواقف وأصبح الزمن زمن الشراهة والنهم، زمن البوليميا في كل شيء حتى في الحب. فلم يعد هناك وقت لكي تسترخي مشاعرنا، لكي تذوب في الأخر على مهل، ولم يعد هناك وقت لكي نتأمل غروب الشمس وشروقها، لا وقت لتبلور الأحاسيس فنعزلها ونغوص في عالم من القطيعة الدافئة الناعمة، لا يعرف الضجيج ولا الزيف ولا العجلة ولا السطحية.‏‏‏

‏‏‏

لقد كنا حتى وقت قريب في شرقنا هذا نتروى ونتمهل ونبطئ في مزج حياتنا بالحياة الحديثة الصاخبة. وفي هذا الصدد أتذكر عبارة شهيرة للموسيقار «سترافكس» يرد فيها على اتهام البعض بالتطويل لدى الموسيقار «شوبرت» فقال: «ماذا يهم إذا نمنا قريباً وبعيداً. أصبح قريباً لأنه يسكن الأشياء من حولنا يكاد يعانقنا يحاصرنا. فالحب يموت والمبادئ تموت وكل شيء جميل، وأصبح الموت بعيداً لأنه من شدة قربه لم يعد له هيبة فلم نعد نلتفت إليه حتى عندما نفتقد من نحبهم، فالحزن لم يعد يتوقفنا».‏‏‏

أين نحن الآن على سبيل المثال من رواية بداية ونهاية لأديبنا «نجيب محفوظ»، فنفيسة وحسنين يلقيان بنفسيهما في مياه النهر للتطهر. فهنا الموت والانتحار من أجل الشرف الذي كان، والمبادئ التي سحقت. وفي رواية «مدام بوفاري» لفلوبير، «انتحرت البطلة»، فلقد خانت واستحقت الموت. وأين نحن من رجل يقطع أذنه من أجل الحب «فان جوخ»، فلنتذكره بالرغم من اضطرابه العقلي، ولكنه رمز لزمن ما قد ولى. الآن لا يقطع العاشق أذن رأس من يحب.‏‏‏

ولم تعد أيضاً المرأة العاشقة زهرة بنفسج يكسوها الشجن، ترتعد عندما يداعبها نسيم الليل الحالم المتلفح بضياء القمر، ترتعش لوشوشة الأشجار الخاملة، لم تعد زهرة البنفسج تلك تتلفح بغلالة من جمرة الخجل، ولم تعد تتفتح لندى الشروق ورحيق الزهور. اليوم هو زمن الخجل من المشاعر النبيلة الناعمة فهي تثير السخرية تخبئها توئدها في غياهب النفس وطياتها ونجهر فقط بالمغامرات العابرة المسافرة ونزهو فقط بعلاقة وثنية كالخنجر الغائر في دماء غجرية متقلبة، وحشية. المشاعر تنسم الآن بالترحال والبوهيمية.‏‏‏

صارت المرأة في نظر بعض الرجال مجرد بساط أعجمي يدعي الرجل أنه كلما داس عليه ووطأه بقدميه أصبح أثمن. نخجل من الانصهار في الآخر سواء كان رجلاً، امرأة أختاً، وطناً، قيماً أو إيداعاً، نهفو لكل ما يبرق ويلمع ويتوهج حتى إن كان في الواقع أجوف وفارغاً يعانق الزيف. فأين نحن الآن من المبدعين الذين حفروا طريقهم بالدم والعرق والدموع، فصارعوا المستحيل، وضاجعوا الألم والعذاب من أجل الوصول لقيم وأهداف نبيلة. فنجد على سبيل المثال الدكتور طه حسين صبياً غريراً قادماً من رحم قرية مظلمة نائية بصعيد مصر، يصارع الظلام لكي يصل إلى نور أبدي وخلود مطلق.‏‏‏

‏‏‏

عباس العقاد بالإرادة تغلب على عدم استمراره في الدراسة وقهر المعوقات فأصبح أعظم عقلية في الشرق الأوسط، ولم يضن بما اغتنمه من ثقافة على جيل آخر ففتح داره وجعل منه صالوناً ثقافياُ. نذكر أيضاً «بروست» الذي هزم جسده العليل، السقيم وترك أو وهب للخلود صرحاً إبداعياً «البحث عن الزمن المفقود». ألبرتو مورافيا ضاجع العذاب والألم وتغلب على مرض سل العظام وحرمانه من الدراسة وأصبح أديب إيطاليا الأول أيضاً. و»مايكل أنجلو» الذي لم يمل الانحناء سبع سنوات ليرسم سقف كنيسة سان بيتر في الفاتيكان، وأديبة اسمها «مارغريت ميتشيل» ظلت عشر سنوات تكتب روايتها الوحيدة «ذهب مع الريح».‏‏‏

أما الآن فقد هبطنا بالفن وهبط بنا فأصبح الفن معلبات للاستهلاك اليومي ولكن غير الصالح للاستهلاك الآدمي، يتحول بعد لحظات لأشياء صدئة فارغة فاغرة فاها كأنها الموت في أقبح صورها. وهنا يجب أن نذكر نظرية الفيلسوف «نيتشه» عن الثقافة والإبداع والفن وأيضاً رؤية الموسيقار «فاغنر» المطابقة لنيتشه وهي أن الثقافة أصبحت يوماً بعد يوم أقرب إلى الموضة التي منها إلى الثقافة الحقيقية، الأصلية؛ فالصفوة تركت مسار الثقافة في أيدي طبقة أغنياء الحرب أو المحدثين وأصبح هناك ما يسمى بثقافة القطيع. «فاغنر» ضد الديمقراطية في الفن فالذوق والرقي مصيرهما التلاشي ومن ثم تخسر الصفوة وأيضاً العامة، فتعميم الثقافة وهبوطها من أعلى إلى أسفل وليس الصعود عامة بالفعل إلى أعلى يؤدي إلى البربرية والهجمة الثقافية التي تنادي بثقافة اللحظة المفعمة بالخواء والغلاظة والابتذال.‏‏‏

ويكفي أن نلقي نظرة بانورامية لما آل إليه مسرحنا اليوم على سبيل المثال. لقد أصبح عبارة عن مزيج من الكباريه والسيرك ومستشفى الأمراض العقلية على طريقة «إسماعيل ياسين» ولكن مع الفارق والتقدير لإسماعيل ياسين أصبح المشاهد يتعاطى هذا الكم الهائل من الابتذال والقبح والتفاهة والعته. وإذا كنا لم نعد نستطيع أن نبدع مسرحاً راقياً فلماذا جهاز إعلامي مثل التلفزيون يدفن نفائس الماضي من مسرحيات لتوفيق الحكيم والشرقاوي ويوسف إدريس ونعمان عاشور وآخرين عرب لم نذكر أسماءهم في سورية والعراق والمغرب العربي. وأصبح المشاهد محاصراً يتجرع ثلاث مسرحيات أصبحت قدره وقدر عياله ونصيبه في هذه الدنيا.‏‏‏

وعلى أي حال يجب ألا نندهش الآن على حال الإبداع والثقافة. فالعالم الذي أصبح مكتظاً بجرائم يقتل فيها الابن أمه ويغتال أباه وترشق السكين في أعناق الأطفال الأبرياء ثمناً لكرم الضيافة وزمن يتطاحن فيه الأشقاء ويتقاتلون في بقاع أرض العرب المبعثرة، المفككة ويتطاولون على أرض الدين ويلطخونه ويستغلونه. أصبحنا في زمن توظيف الأديان من أجل مكاسب رخيصة، زائلة في زمن تكديس وتقديس الأموال وعقد الصفقات الشيطانية اليومية على طريقة «فاوست لغوته» فما أسهل مهام الشيطان اليوم بعدما خمل الضمير.‏‏‏

لا وقت اليوم للاختلاء بالنفس، فهناك وقت فقط لاقتناء الأشياء. أصبحنا في زمن حضارة الأشياء لا حضارة الإنسان أو الرغبة في تحقيق هدف أو نجاح معنوي. فالتطاحن الآن من أجل سيارة أو فيلا وليس من أجل فن جميل أو حب صادق. أين كل هذا من صبية جاءت من حقول القطن الناصعة الشهباء تشدو بصوت يعانق الكون والفضاء العريض، لا تطمع سوى في الغناء ثم الغناء هي أم كلثوم التي زاحمت النجوم والكواكب في سماء الدنيا، ثم العظيم نجيب محفوظ الذي لم يسع في يوم من الأيام لشيء وكان يكتب بدأب وحب فقط حباً في الكتابة. لم تكن الكتابة وسيلة لتحقيق شيء بل كانت هدفاً في حد ذاتها فجاءه العالم يسعى إليه.‏‏‏

وبالطبع هؤلاء عندما مسهم النجاح والوهج وجاءتهم الشهرة لم يهتزوا ولم يعرفوا الغرور وتضخم الأنا لأنه كانت لديهم الأصالة والعمق فليس الحب الذي يحتاج وقتاً لكي ينضج بل أيضاً الموهبة ولذلك أصبحت الآن المواهب مثل الحب قبل أن تولد.‏‏‏

فوداعاً للحب الذي كان والزمن الذي كان.‏‏‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية