وراج استعمالها في الكتب والمؤلفات. ومن هذه التسميات لفظ «قصيدة» التي يبدو أنّ المشتغلين بتواريخ النقد الأدبي لم يستطيعوا أن يحدّدوا بالضبط التأريخ الذي بدأ فيه هذا الاستعمال، بمعناه الاصطلاحي.
فأصحاب المعاجم تجاهلوا مسألة ظهور الاصطلاح، وتناقلوا دون كثير اهتمام أنّ «القصيد: هو ما تمّ شطر أبياته، وليس إلا ثلاثة أبيات فصاعداً، أو ستة عشر فصاعداً، والمخُّ السمين، أو دونه. والقصيدة من الشِعر: المنقّحُ المجوّد».
هذا الكلام الذي قاله «محمد الفيروزأبادي» في معجمة «القاموس المحيط» نقله عن الذين سبقوه وأورثه للذين أتوا بعده من المشتغلين بالمعاجم، دون أن يوضّح أحدٌ منهم طبيعة العلاقة الوصفية لوجود التسمية والمدلول العملي على المستوى الأدبي لها، ولا النقاط المشتركة في ما يسمّى «مجال الدلالة» الذي سمح بمثل هذا الاستعمال دون غيره في اللغة، ولا سبب ترجيحه على الممكنات المتاحة الأخرى.
وتضاربت الآراء حول الشِعر أيضاً، ولماذا لم يسمّوه «القصيد» ويقولوا إنّ القطعة الواحدة منه «قصيدة»، وهل سبب تسميته ناتج عن أنّ واحد الأسطر في القطعة هو «البيت» الذي كان يسكنه البدو والأعراب المتنقّلون، والذي كان يصنع من الشَعر والوبر؟ فتسرّبت بعض المفاهيم من طرف إلى طرف، واختلط الأمر، حتى إنّ تقطيع الأبيات الشعرية، أعطي ثلاثة أسماء من مستلزمات إقامة البيت المسكون؛ أولها: العمود: الذي يقيم الوزن العام، والثاني والثالث: الوتد والسبب، اللذان يمثلان جملتين صوتيين مؤلفتين من متحركين فساكن أو متحرك فساكن.
والذي ينظر في عمل «الخليل الفراهيدي» يجد أنّ عمله كان يقبل دخول بيت شعري واحد في تصنيف بحرين مختلفين. ولا يُحسم هذا الإشكال بأخذ البيت الشعري باعتباره وحدة مستقلة لا علاقة له بسياق القصيدة كلها، أو بما قبله وبعده من أبيات، بل لا بدّ من الاحتكام إلى الصفة السائدة في القصيدة ومدى اقترابها العام من أي بحر أكثر من غيره.
وقد أوردت في كتابي «مستقبل الشعر» أمثلة متعدّدة لذلك، بمثابة مدخل لطرح فكرة التخلّي عن «الشكل التقليدي» الذي كانت الكتب المدرسية تزعم أنه ذو «صرامة شكلية محكمة» استنبطها الفراهيدي والعروضيون التقليديون من موفور الشعر الذي وصلهم على مرّ الفترات الزمنية، من العصور التي سبقت ظهور الدعوة الإسلامية، إذ يتضح لكل متخصص أنّ هذا الزعم غير دقيق في التعبير عن ما حدث في مسيرة الشعر العربي، الذي بين أيدينا عشرات آلاف الأمثلة منه تؤكد أنّ القصيدة الواحدة يمكن نسب أبياتها المتعدّدة إلى أكثر من بحر واحد، على نحو ما أشرت.
وقد اقترحت كتابة قصائد ذات «أشكال بيانية» لتوضيح مقاصد الأحداث والإفادات اللغوية فيها، قبل قراءتها، عبر الاستعانة بوضعها على شكل هندسي مستمدّ من الأشكال «البيانية» التي يعرف أبناؤنا اليوم استخدامها في مادة الرياضيات، ولا سيما بعد أن غدت التمثيلات مفهومة من جانب المتعلمين والعوام ومن يقع ترتيبه بينهما، بعد اتساع الثقافة الاقتصادية والعلمية التطبيقية وشيوع التعبير الإحصائي عن مقولات الرأي العام والنسب المئوية التي صار يعرفها الصغار والكبار معاً.
القصيدة البيانية، ببساطة، لا تستغني عن «الإيقاع» الموسيقي وليس الوزن التقليدي، الذي هو شرط أساسي في التمييز بين النثر والشعر في الأدب. وهذه القصيدة لدى القراءة لا تختلف عن أي قصيدة من الشعر «الحر أو التناظري» في قيامها على التفعيلتين «فا، علن» واللتين تستوعبان التفعيلات الكثيرة التي ذكرها الفراهيدي وأتباعه في ما نعرفه من البحور الستة عشر وما تفرّع عنها في الصياغات الكثيرة المعروفة والممكنة.
أخيراً أتمنى أن يشيع الحديث عن أنواع أخرى من القصائد، ليزيد فتح باب الإقبال على قراءة هذا الجنس الأدبي الذي انتقلت إلينا بوساطته ملايين المشاعر والأفكار والمواقف.