ووضع لوحاته عن جهل أو خطأ في خانة التجارب الواقعية (راجع مجلة الحياة التشكيلية السورية العدد 17-18 صفحة 38) وهذه مغالطة كبيرة لا تزال الكتابات تقع فيها إلى الآن، حيث كانت لوحاته الأولى شاهدة على مساهمته في إطلاق الشرارات الأولى لظهور ما يمكن تسميته بالانطباعية السورية إلى جانب ميشيل كرشة ونصير شورى وسواهما.
وشهرته لا تكمن فقط بكونه رسام الحارات والأزقة والبيوت الدمشقية القديمة فحسب، وإنما تكمن أيضاً بأنه رسام وجوه «بورتريهات» من الطراز الاول، ولقد أحس منذ البداية بأهمية اللمسة اللونية العفوية والمتحررة التي تملص مواضيع الوجوه من القوالب الكلاسيكية المثالية وتمنحها حيوية متجددة، ولقد اقترب في بعض لوحات الوجوه من أجواء الافتتان الأنثوي وعكس فيها جمال المرأة الريفية والارستقراطية بذوق مرهف (ولا سيما في لوحات: سيدة شقراء في فستان أسود، ملك بقبعة القش، فتاة تحمل رسالة، السيدة خانكان، هند خانكان بجانب الشلال، غادة المتحف، فتاتان في المتحف، فتاة في المرسم، من جبل العرب وغيرها) كما شكلت لوحات العاريات التي رسمها أثناء وبعد دراسته الأكاديمية في محترفات كلية الفنون الجميلة في القاهرة التي تخرج منها عام 1946 المدخل لتفهم قيم الضوء المتنقل بشاعرية بصرية توازن مابين حركة المناخ التصويري الأكاديمي، ورغبات الانفتاح على معطيات اللمسة اللونية العفوية والإشراقة الانطباعية.
الروافد الأولى لفن «البورتريه
ولوحات البورتريه في تجربته تعتمد بصورة أساسية الناحية الابتكارية، وليس مماثلة الوجه المرسوم على الطريقة التقليدية، فلا يكفي هنا إيجاد الشبه تماما، وإنما التعبير عن قسمات الوجه والحالة النفسية التي تعيشها الشخصية بإضفاء اللمسات والضربات اللونية العفوية، وانكسارات الضوء انطلاقاً من المفهوم التشكيلي الانطباعي، ونجد في بعض لوحاته علاقات لونية تلقائية محكمة التنسيق، وفي بعض الاحيان يتغير تعبير الوجه بإضفاء لمسة واحدة أو لمستان بفرشاة الألوان أو بالقلم كما في لوحات «البورتريه» الكثيرة التي أنجزها بألوان الباستيل.
ويزداد هذا الشعور إذا شاهدنا وجوه النساء والفتيات والرجال والاطفال الذين جسدهم خلال مسيرته الفنية الطويلة في لوحاته المرسومة بالزيت بشكل خاص، فالإحساس اللوني في هذه اللوحات عفوي ينبع من الداخل إلى الخارج، ويبرز قدرة على اختيار الزاوية المناسبة للجلسة أو الوقفة، فلوحات الوجوه تتنوع وتتبدل وتعبر في النهاية عن أبجدية أو أسلوب خاص بالفنان نفسه، والوجه في غالبية لوحاته غالباً ما نجده منفذا بعفوية أقل من مقاطع أخرى في اللوحة ذاتها تبدو أكثر تحرراً، حتى أن خلفيات بعض لوحاته تتحول إلى لمسات وحركات أقرب إلى التجريد اللوني الغنائي.
وهو في ذلك كان يصل إلى خلفيات تجريدية رغم أنه يعارض التجريد بعبارات واضحة وصريحة، ويبقى في إطار الصياغة الفنية الحاملة فسحة انطباعية وأكاديمية في أكثر الأحيان.
ومنذ البداية حاز على جوائز هامة في الرسم الأكاديمي، وبدت رسومات مرحلته الدراسية على مستوى طليعي، وكان يرسم موديلات حية بسهولة ميسرة وبحيوية لافتة، تقتنص الملامح والتعابير والحالة النفسية والمناخ الذاتي والحداثة التشكيلية، التي تغري العين وتمنح الموديل الحي تجلياته المتجددة وزمنه المعاصر، وتحمل إلى المشاهدين نفحات من الفرح والعفوية والصدق، وتجعل اللوحة مجالاً مفتوحاً على الاختبار وتظهر القدرة على الرسم والتلوين المفتوح على التلقائية والعفوية اللونية، المقطوفة من الطرف الأقصى للفرح اللوني الانطباعي في خطوات التمييز والالتقاط والتعبير والإحاطة بجوانب الشخصية.
ناظم الجعفري فنان أحرق حياته من أجل فنه وعناده، حيث كان الرسم اليومي رفيقه الوحيد، والبعد عن الأضواء راحته الدائمة، ومنذ البداية أظهر ميلاً واضحاً نحو المظهر التلويني الغنائي عبر انطباعات رؤيوية أفسحت المجال لرؤية المشهد خارج حدود الدقة الواقعية والنمنمة التفصيلية، وكان يمضي أوقاتا طويلة في الرسم، وخلال فترة دراسته في كلية الفنون الجميلة في القاهرة اكتشف أسرار تقنيات الرسم الزيتي التي تتعامل مع اللمسة الماهرة والنسب والظلال كعناصر أساسية في التأليف والتكوين، وبعد سنوات قليلة من قدومه من محترفات الدراسة الأكاديمية برز كفنان طليعي، وحاز في العام 1951 على الجائزة الأولى عن لوحة له بعنوان القوافين، وفيها ظهرت براعة أدائية ملفتة وانطلاقة متينة في مجال الرسم الانطباعي، ويمكن اعتبار لمساته اللونية المتحررة التي جسد من خلالها المشاهد الواقعية المعمارية ونموذج المرأة في بدايات انطلاقته الفنية، خطوة متطورة منحت المشهد تجلياته المتجددة.
وهذا يعني أن اللوحات التي قدمها في بداية انطلاقته الفنية في نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات، كانت تقترب في بعض الأحيان من ملامح الصياغة الانطباعية الحديثة في وقت كان يذهب فيه غالبية الفنانين الرواد الأوائل، الذين سبقوا فناني الحداثة، إلى صياغة واقعية ظلت سطحية ولم تتجاوز حدود الشكل الإيضاحي والتسجيلي، وبالتالي لم تصل إلى اللمسة العفوية التي تحرك الألوان والظلال والأضواء وتمنح الأشكال المرسومة حيوية تصويرية متجددة.
ناظم الجعفري كان يفيض في لوحاته عن دمشق القديمة والمرأة والعناصر الأخرى، بما يسمى بالانطباعية السورية (تقديم المشهد الواقعي بلمسات لونية متحررة) وبذلك كان يضفي على فسحة اللوحة إيقاعات ضوئية باهرة، من خلال المحافظة على القواعد الانطباعية، التي تكرسه كواحد من المصورين الرواد البارعين والباحثين عن يقظة تشكيلية، تستعيد القيم الجمالية القديمة والحديثة (العقلانية والعاطفية والغنائية) المنفلتة من الصياغة التسجيلية السهلة. فهو من المبدعين القلائل الذين استطاعوا تجاوز الأنماط السياحية والاستهلاكية، معلنا اقترابه من عوالم الصياغة الحديثة الحاملة تداعيات عراقة ونكهة العناصر المعمارية القديمة التي تتعرض للاندثار والزوال.
البيوت والحارات الشعبية
وفي لوحاته (التي تقترب من الرسم الانطباعي في مظهرها الاحتفالي) استعاد أجواء الحارات والبيوت الشعبية القديمة، الفسيحة من الداخل والخارج، والمطلة على نصاعة بياض زهر الياسمين الذي كان ولايزال يعطي لدمشق رونقها السحري المتجدد، ففي لوحاته ملامح كثيرة من أسرار العمارة الدمشقية القديمة، الباقية في مشاهدات القناطر والأقواس والمقرنصات والبحرات ونوافير المياه وأحواض الورود والزهور، وأشجار الليمون والأضاليا والمنثور، المكشوفة على الهواء والسماء في البيوت الفسيحة، التي تتداخل في حكايات تكاوينها الحجارة المتناوبة الألوان والزخارف الهندسية والنباتية، التي تطرب العين والقلب وتترك في النفس مشاعر الفرح وأحاسيس الانتماء إلى مدينة تاريخية عريقة، موغلة في القدم.
وقد يكون ناظم الجعفري أحد أكثر الفنانين السوريين، الذين تفاعلوا مع جماليات العمارة الدمشقية القديمة، ويكفي في هذا الصدد الإشارة إلى أنه كان ومنذ أكثر من سبعة عقود يحمل لوحاته وألوانه، ويقوم بجولات فنية، في أمكنة كادت أن تصبح وهمية وفارغة من السكان، بعد سيطرة التشييد الخاطئ للتحديث العمراني.
ففي لوحاته ورسوماته الكثيرة جداً، نلمس وبوضوح مؤشرات التفاعل مع جماليات العمارة المملوكية، التي بحث عنها طويلاً في شوارع وأحياء وأزقة وبيوت المدينة القديمة، كما جنح أيضاً ومنذ بداياته إلى تصوير المرأة وضمن رؤية متفاوتة ما بين الواقعية والانطباعية.
ومن الناحية الفنية كان ناظم الجعفري في لوحاته التي قدمها منذ نهاية الأربعينات، يفيض عفوية وغنائية، حيث كان يضفي على المشهد المعماري إيقاعات ضوئية باهرة، وبذلك كان يستعيد في أكثرية لوحاته، القيم التصويرية الانطباعية المنفلتة من إطار الرسم الواقعي التقليدي والتسجيلي.
وعلى هذا أطل ناظم الجعفري كصاحب دور ريادي، وساهم في تثبيت دعائم قيام الحركة الفنية السورية الحديثة، بعدما أثمرت تجربته حوارات ثقافية أثرت على أجيال من الفنانين الذين تأثروا بصياغاته التصويرية الماهرة والواثقة، ولقد كان لهذه التأثيرات أكثر من ردة فعل ساهمت في تحقيق خطوات اليقظة التي انعشت الحياة الفنية السورية وكرست هواجس التواصل بين الموروث التراثي ورؤى الحداثة.
ويقال بأن ناظم الجعفري انجز خلال مسيرته الفنية الطويلة أكثر من ستة آلاف لوحة (ما بين زيتية ورسوم باستيل وفلوماستر) عن دمشق القديمة، والتي يمكن اعتبارها بمثابة وثائق فنية فريدة من نوعها تحفظ خصوصيات التراث المعماري، الذي اكتسبته المدينة خلال قرون عديدة عبر لمسات لونية عفوية لا تذهب إلى ذاتية جامحة، بل تعمل على إيجاد توازنات منطقية بين الوعي والعاطفة. ولذلك فلوحاته تتجه في جميع مراحلها نحو نشوة النور وحركة اللون العفوي وجسد الإيقاع المتوازن والمدروس، وهي في النهاية تحمل بطاقة الانتساب إلى روح اللوحة الانطباعية التي تحفظ خصوصيات المكان كرؤية مترسخة في الذاكرة والقلب معاً.
facebook.com/adib.makhzoum