تلك اللوحات التي سجلها التاريخ، ونقلها السلف إلى الخلف، هذه الحقائق التي جاءت عبر استقراء وتحليل مسؤولين لتاريخ حقبة في وطن لم تُنقل سابقاً بأمانة ومصداقية كالمصداقية التي جسدها نص حرائر للكاتبة عنود الخالد.
لقد أعطى النص وأظهر السمات التي اتسمت بها رفيقة الرجل في بلادنا، ونخص (سمات المرأة الشامية) بسلوكها في منزلها وحارتها ومدينتها، وبعلاقاتها البينية، التي تظهر بسلاسة طبيعية وبواقعية تعنينا، جعلتنا نشكر الكاتبة والمخرج وفنانينا.
إنني لا أريد أن أقيِّم فنياً المسلسل من حيث الإخراج والتمثيل، الذي عكس لنا هذه الصورة الرائعة البديعة، ذات المضمون الذي يحاكي الكمال باعتزاز.
بل سأتحدث عن حرائر وكاتبة سبرت وحللت وكشفت فأنتجت ما نرى، فذكرتني (بحقيقة يعرفها الكثيرون ويتجاهلها الكثيرون، ومفادها أننا من السهل أن نصنع تاريخاً، ولكن الصعوبة تكمن بمن يكتب هذا التاريخ بأمانة ونزاهة وصدق، وكاتبتنا استلهمت بصدق، المضيء من التاريخ، فجاء إسقاطاً حقيقياً حياً حيوياً، ودافعاً لكل الحوافز القيمة لإنساننا في هذه الظروف العصيبة.
إن حرائر يكشف هوية أسلاف الذين يتلبسون اليوم عقائدنا ويتسلقون قيمنا ويدَّعون الحفاظ على إخوتنا، وهم أنفسهم يقتلون العقائد والأخوة ويسفهون القيم.
ولا أغالي إن قلت بأن مجرياته جلت بعض الغمام، واستنهضت النفوس، وأسهمت في تصويب الأفكار، وتصليب الإرادات وكشفت رذائل الخلف العثماني المعاصرة، المتجانسة مع تكفيرية ونذالة السلف العثماني (العصملي) المتخلف.
نعم لقد أعادنا (حرائر)، إلى حقائق نقلتها لنا الجدة عن سيرة أمها وجدتها، وهكذا عرفنا حرائرنا وثبتنا في أذهاننا سيرهم الوطنية الصادقة، وسلوكياتهم القدوة في الخُلق والتربية، في الإقدام والتضحية، في قرانا ومدننا، هذه الصفحات المشرقة عززتها تلك القيم الوطنية والأخلاقية في الوصل النقي التقي، والإيمان المتجذر في ذهنية الإخاء، التي تنظم سلوك الفرد والمجتمع، وتربط القول بالفعل، معززة العقد الاجتماعي الذي يفرز (الغث عن السمين والصدق عن الكذب، والوطنية عن العواينية، والانهزامية عن البطولة).
إنها حقائق حية أبرزتها الكاتبة (الخالد) في شرائح مجتمعنا المتنوعة رجالاً ونساء - فقراء وفقيرات، مثقفين ومثقفات، مربين ومربيات، عصاميين وعصاميات، هؤلاء الذين ربطن الجأش وحزمن أمرهن لقهر الفقر والذل في مسار الوطنية والوطن، وهن يواجهن مع الرجال شظف العيش ومواجهة المحتل التركي.
لم يكن الخلاف بين أفراد مجتمعنا آنذاك، على هامشيات لا تقدم ولا تؤخر، ولا على عنتريات تُـكبر أو تُصغر، بل كانوا يختلفون ليصححوا انحرافاً، ويتفقون ليثبتوا قيما، لأنهم يعرفون بناتهم وأبناءهم ويعرفون سجاياهم وأخلاقهم، (ولم ينشدوا المظهرية بالصراخ، الذي أراده البعض مظهرية جوفاء لا تعدو صراخاً يطيب للعصملي سماعه، لتضيع العقلانية، وتمس سلوكيات حرائرنا عند رؤية حالة غير مقصودة (منهن)، جعلها العثماني (عورة)، ليعمم صورية السلوك وشكلية القيم والإيمان.
لقد وقع بعض كتابنا في الشرك دون تدقيق التاريخ وصدقية وقائعه، فنقلتها بعض مسلسلاتنا، وكأن ظهور وجه أو كف حرة عارياً عورة، حتى لو حملت زاداً وسلاحاً، ضد المحتل التركي، لنسمع صرخة (يا باطل) وكأن القيم هُدرت والتقاليد خُرقت والحرائر سُبيت، وأصبح العرض والفرض في مهب الريح، وبهذه الصرخة تتجسد غيرة غوغائية جوفاء، أرادها (العصملي) الراحل بالسيف مورثاً تخلفه وموبقاته.
لقد فرض علينا العثماني ما ليس فينا ليس لعفة أوخُلق أومعتقد، بل لستر موبقاته التي لا تمت للإيمان بصلة، ولتحريف معتقداتنا وتقاليدنا وتاريخنا، ولتمرير ثقافة عثمانية بغيضة، تبدأ بوقوف مذل لحرائر الوطن وراء الأبواب وفي إسدال الحجاب، على وجه مربيات الأجيال.
حقاً إنه تشويه لثقافتنا ولنظرة إنساننا، لأمه وأخته وجارته وجيرانه كباراً وصغاراً، وكأن معتقداتنا ربطت في منحى واحد من الحياة بقصد تسفيهها.
حين نتابع (مسلسل حرائر) نشعر بصدق بأنه يتحدث عن قناعاتنا التي حاول البعض هزها والنيل منها، ونحن نواجه ونطهر الأرض بالدم ونعمر سورية من جديد.
إن بعض الإبداعات الفنية لكتابنا وفنانينا في مسلسلات سابقة، لم تكن تتحدث عنا ولا عن تاريخنا ومجتمعنا وقيم أسلافنا، ولو كانت كذلك فيعني أن التاريخ مزور، وتاريخ حرائرنا مزور، فما الزباء ونيفرتيتي، سوى كذبة أسطورية! كما تعني إن إرسال خديجة (رضي الله عنها) لنفيسة بنت خويلد قبل الإسلام لتخطب لنفسها نبي العروبة والإسلام سوى خطوة غير محمودة؟!!
ماذا نفسر تكريم الإسلام للمرأة؟، وبعض مسلسلاتنا تكرس دونيتها (حيث تُنهر وتُذل وكأنها أمة) وتُبرز مواقف رجالنا المترددة إزاء أي حدث، مواقف مهزوزة رعناء، حيث تصعد بلحظة للذروة وتنحدر مباشرة للحضيض، دون أي حساب، (بحجة العودة عن الخطأ فضيلة).
إن قرون الاحتلال التركي للعرب، كفيلة بقتل التراث والقيم والتقاليد ودفنها، لولا امتلاكهم مقومات حية لأن دفع الشعوبية لتسكن شرايين الأمة كان خطيراً.
أقول لنفسي ولمن يكتب إن ثوابت الأمة خطوط حمر يجب ألا تمس، ولا تتاح الكتابة فيها إلا لمختص قادر على السبر والتحليل واستلهام المضيء من تاريخنا الذي يواكب الزمان والمكان، لأن حرائرنا صانعات أبطالنا، لذلك فإن:
نازك العابد، وماري عجمي، وفاطمة روز اليوسف، وبنت الشاطئ، وفيروز، وأم كلثوم واسمهان، وحبابة زوجة البطل صالح العلي، والآلاف الأخريات مثلهن (لا تنهر ولا تذل ولا يسدل الحجاب على وجهها المعبر عن الخلق والإيمان بالله والوطن، لأن (العصملي) أراده ستاراً لحجب حقائق حرائرنا وتاريخنا، وأمنا التي كرمها الله بعد أن كانت تدفن حية.