تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


رياض السـنباطي عملاق القصيـدة الملحنّــة

ثقافـــــــة
الثلاثاء 22-1-2013
حكمات حمود

جيل العمالقة.. جيل زكريا أحمد، ومحمد القصبجي، ومحمد عبد الوهاب ورياض السنباطي وفريد الأطرش، غربت شمسه ومضى في رحلة العمر ولم يبق منه سوى ذكريات فنه الشامخ..جيل العمالقة هذا الذي أرسى دعائم الغناء العربي في القرن الماضي، والذي ستعيش أجيال وأجيال على الثروات الفنية التي تركها..

سيظل العلامة البارزة في تراثنا الفني العربي إلى الأبد، ورياض السنباطي الذي رحل في التاسع من أيلول عام 1981 كان آخر الكلاسيكيين المبدعين والذي لم تجرفه فوضى التجديد الارتجالي ولن يركض وراء موجة الصراعات التي قامت على اللاشيء واجتاحت إلى حين كل شيء دون أن تعطي ثمراً.‏

رياض السنباطي هذا كان يحترم أسلافه الكبار من أجل الارتقاء بالفن الموسيقي والغنائي ومن احترامه لأسلافه ومن غنى عطاءاتهم تدفق إبداعه في كل ضروب الأغنية العربية بدءاً من الأغنية الشعبية ومروراً بالمونولوج وانتهاءً بالقصيدة التي يعتبر سيدها المطلق.‏

فن تلحين القصيدة‏

لم تعرف القصيدة حتى القرن الماضي قالباً معيناً في التلحين والتقليد الوحيد الذي كان متبعاً في تلحين القصيدة هو الارتجال وقد ظلت القصيدة تلحن بهذا الشكل البدائي حتى جاء أبو العلا محمد- وخلصها من ارتجال المطرب وذلك بتلحين القصيدة بيتاً بيتاً ملزماً المطرب با لغناء وفق التلحين الموضوع لها. ثم جاء القصبجي فوضع للقصيدة مقدمة موسيقية معبرة ثم جاء محمد عبد الوهاب فأولاها عنايته.‏

أما السنباطي الذي دخل معترك الحياة الموسيقية في أواخر العشرينات فقد استفاد من تجارب سابقيه ليخرج فيمابعد بقالب القصيدة المتعارف عليه اليوم.‏

لقد كان السنباطي يحب الشعر ويحترمه ويعتبره أرقى أنواع الأدب كماكان يقول. فيجب والحالة هذه أن تكرس له أرقى أنواع التلحين لأنه الوسيلة الوحيدة للارتقاء بالمستوى الثقافي و الفني للجماهير.‏

ويريد اتصالاً حقيقياً يرتفع ويسمو عن طريق نفسي شاعري بعيد كل البعد عن الطرب الغريزي.‏

والشعر هو الوحيد الذي لا يستقيم تلحينه مع الطرب الغريزي. و السنباطي كفنان جاد و ملتزم في عمله طرق بين نوعين من القصائد في تلحين القصيدة، القصيدة الحديثة و القصيدة العمودية. ففي القصيدة الحديثة ارتأى من خلال تجاربه و تجارب القصبجي و عبد الوهاب أن تختص باسلوب حديث يعبر عن عصريتها. أما القصيدة العمودية فنجده أخضعها لقالب فني طوره عن القالب القديم الذي سبق للقصبجي و أبي العلا محمد أن عالجاه فجعله يتحمل كثيراً من الضغط والزخم اللحني و العرض الصوتي ليتحدث موسيقياً من خلاله بلغة العصر، و السنباطي الذي عالج كل أنواع الشعر. فرق أيضاً في تلاحينه بين القصيدة الوطنية و القومية وبين القصائد الغزلية و الرومانية وبين القصائد السينمائية فأعطى كل نوع من هذه الأنواع حقه في التعبير الموسيقي و الغنائي و سما بها كلها حتى اكتسب فن تلحين القصيدة على يديه ملامح عميقة الجذور ذات صفات سنباطية وغدا الملحنون جميعاً دون استثناء بمافيهم الكبار يخشون ويتهيبون تلحين القصيدة.‏

مراحل تلحين القصيدة‏

اجتاز تلحين القصيدة عند السنباطي مراحل ثلاثاً وفي كل مرحلة من هذه المراحل عامل الإصرار على الارتفاع بالمستوى الفني للجماهير والارتقاء إلى مستوى التذوق الرفيع و إحلال الطرب النفسي محل الطرب الغريزي الذي ما زال يسود الغناء حتى اليوم.‏

- المرحلة الأولى: في هذه المرحلة مرحلة القصائد العمودية كما يظنون- رأى اللوم- سلوا كؤوس الطلا- سلو قلبي و غيرها و مرحلة القصائد الحديثة و الغنائية كما في- أغار من نسمة الجنوب- اذكريني - أحلام الزهور- وغيرها، استمرت هذه المرحلة في تصاعدها و لحن السنباطي للكبار الشعراء مثل أحمد رامي- أحمد شوقي -و حافظ ابراهيم- ثم جاءت في هذه المرحلة الدرة الفريدة في تاج القصيدة «مصر تتحدث عن نفسها» لحافظ ابراهيم، لتتحدث ببلاغتها اللحنية عن بلاغتها الشعرية و لتعبر عن المعاني بمقدرة لم تسبق ولم تلحق و يمكن اعتبار هذه القصيدة خاتمة ألحان المرحلة الأولى التي يمكن وصفها بالشمس التي تشع بنورها على أعمال المرحلة الثانية لتأثيرها القوي عليها!‏

المرحلة الثانية: في هذه المرحلة ظهرت رباعيات الخيام كدرة فريدة و ظل السنباطي يفرق بين اسلوبين اتبعهما بين قصائد غنائية «كذكريات» وبين قصائد تقليدية «كرباعيات الخيام» ففي الأولى تلمس من وراء المقدمات الطويلة إصراره على الاسلوب الذي ابتكره بينما ظل في الثانية مخلصاً لتعاليم أسلافه الكبار بالمقدمة قصيرة تمهد للغناء، في هذه المرحلة تجاوب السنباطي مع الأحداث الكبيرة فانعكس ذلك على مجمل ألحانه من وطنية وقومية و عاطفية لتعبق كلها بأريج خاص ميز هذه المرحلة عن سابقتها فتوهجت قصائد «صوت السلام- قصة السد- لنا النيل- يا ربى الفيحاء- وأضاءت الغزليات سماء الوطنيات كما قصائد رابعة العدوية ورباعيات الخيام لنجاة الصغيرة. و على الرغم من كل هذه الألحان التي اتسمت بروح التجديد فإنه لم يعط القصيدة بشقيها التقليدي و الحديث البعد النهائي الذي طمح إليه.‏

المرحلة الثالثة: أصبح قالب القصيدة في هذه المرحلة يتألف بصورة نهائية بالنسبة للقصيدة العمودية من مقدمة قصيرة شاعرية جداً يدخل بعدها الغناء كما في قصيدتي- أراك عصي الدمع- وقصيدة الأطلال- حيث غدت الموسيقا نوعاً من القراءة الشعرية في - أراك عصي الدمع - ونوعاً من الخيال في - الأطلال- و فرحاً رومانسياً في قصيدة - أقبل الليل.‏

يمكن القول بعد هذا إن قالب القصيدة بنوعيه العمودي و الحديث قد اكتسب بفضل السنباطي أبعاده النهائية فغدا قوياً متماسكاً شامخاً. وأتاح للملحنين أن يبدعوا من خلاله‏

أخيراً لم يتساءل سوى قلة عن مصير الأغنية بعد رحيل السنباطي الذين تنطعوا للأغنية الكلاسيكية بعد العمالقة، و أدلوا بدلوهم فيها. كان أكثرهم ينهل من ثروة العمالقة و أساليبهم دون أن يقدموا شيئاً جديداً لكن الأمل ما زال معقوداً على آخرين. بالموسيقا و الغناء لن يتوقفا برحيل العباقرة و العمالقة لأن الحياة مستمرة و العطاء هو الآخر يجب أن يستمر و ينطلق من النقطة التي وصلوا إليها كي يغتني الغناء و تغتني الموسيقا. رحم الله رياض السنباطي رائد القصيدة الملحنة...‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية