وعاد السلام بعد هذه الفترات العصيبة في تاريخ البشرية ليجد مشهدا غريبا لم يكن قادرا على التعايش معه، فانطوى على نفسه واختار صومعة قرر العيش فيها بمنأى عما يهب على الأرض من صراع وقتال ليس له من مبرر مقنع في نظر السلام.
ولعل الفترة التي احتجب فيها عن الناس ساقت بعضهم إلى الاعتقاد أنه أقدم على إجراء عملية جراحية، قصد من وراء هذه الخطوة إنزال العقاب بهم لعلهم يشعرون بحجم الإساءة التي ارتكبوها بحقه.
لكن الحقيقة التي لا يستطيع أحد أن يماري فيها أن السلام لم يقدم على تغيير ملامحه لأنه واثق من جمال وجهه مقتنع به، ولم يكن مضطرا لارتداء ملابس غريبة تجعله يبدو وكأنه متجه للمشاركة في حفلة تنكرية، بل الناس الذين أغراهم الحرص على مصالحهم بتكدير صفو نهر السلام، هم الذين أساؤوا إليه إساءة لا يمكن إلا الإشارة إلى ما فيها من تشويه لكل ما في الحياة من معان جميلة أنيقة.
وإذا وصلنا إلى العصر الذي نعيش فيه وجدنا السلام في حالة يرثى لها، وعندما طوى القرن العشرون صفحات كتابه هلّل الناس للألفية الجديدة، وتفاءلوا بإشراق شمس السلام لتغمر بقاع الأرض من جديد ألقا ودفئا، لكن الذي حدث على أرض الواقع كان مخيبا لآمالهم إلى أبعد الحدود.
وكانت الحرب على الإرهاب التي ابتدعتها الإدارة اليمينية المتطرفة في الولايات المتحدة الأميركية الرصاصة الأولى التي انطلقت من بندقية العدوان على الشعوب الآمنة المطمئنة، معلنة أن القرن الحادي والعشرين سيبز القرن السابق ضراوة وعنفا، وسيجعل البشرية تترحم على القرن الماضي رغم ما حمله من حروب وفتن جعلت حياة الشعوب جحيما لا يطاق.
ولأن الولايات المتحدة الأميركية لم تشأ أن ترقص وحيدة في حلبة العدوان على الآخرين وإعمال آلة الدمار والقتل في بلادهم لأن مثل هذا الرقص يجعلها تشعر بالألم القاتل، فقد أرسلت إلى ربيبتها إسرائيل دعوة للمشاركة في الرقص فلم يتردد القادة الصهاينة الحاقدون على الإنسانية في تلبية الدعوة، واختاروا الشعب الفلسطيني حلبة لهذا الرقص، وانطلقت موسيقا الحقد صاخبة ليهزَّ كل قائد صهيوني خصره منتشيا بمشهد تدمير الشعب الفلسطيني وحرمانه من كل حق في الحياة.
كانت آلات هذا الرقص حصارا خانقا مفروضا على غزة الإباء والبطولة، وتدميرا للبنية التحتية في كل شبر يتكلم لغة الضاد معلنا أن فلسطين كانت منذ الأول عربية وستعود عربية شاء الصهاينة ومن يقف من ورائهم أو لم يشاؤوا.
ولعل المحاولات المستميتة من قبل كل من الولايات المتحدة الأميركية وطفلتها المدللة إسرائيل للإجهاز على السلام هي التي حرَّكت الخوف على مصيره في قلوب دول العالم، فدعوا لعقد اجتماع يتناول مجلس الأمن فيه سبل تحديد كيفية دعم عملية السلام في المنطقة العربية التي كتب الحقد الاستعماري عليها الدخول في دوامة الفوضى والاضطراب والبعد عن الاستقرار منذ بدايات القرن العشرين وزرع اسرائيل خنجرا مسموما يحاول تقطيع كل شرايينها وأوردتها.
ولم تجد الإدارة الأميركية بعد إخفاقها الذريع في مساعدة عملية السلام للوقوف على قدميها، لم تجد بدا من اللجوء إلى الأمم المتحدة عسى تفعل شيئا في تحريك عملية السلام المصابة بشلل أصاب مفاصلها وجوارحها وأعصابها إصابات بالغة في الصميم.
ولكي لا يجهد المجتمع الدولي نفسه في البحث عن وسائل جديدة تكفل ردة الروح إلى عملية السلام، فحبذا لو تذكّر أن إسرائيل بسلوكها العدواني الفاضح تسعى لجعل السلام مفهوما قانعا بالغياب وإن كانت تدعي وتتبجح أنها تقبل به مفهوما حاضرا من الناحية النظرية فحسب ، لكنه هذا الحضور على هشاشته هو حضور خاوي المحتوى لا يسمن ولا يغني من جوع.
محاولة جديدة يسعى من خلالها المجتمع الدولي لتحريك عملية السلام على المسار الفلسطيني- الإسرائيلي، نتيجتها معروفة مسبقا، فالفشل المتجدد سيكون بانتظارها ما لم يرافق هذا السعي ضغط جدي على إسرائيل لإرغامها على تنفيذ قرارات الشرعية الدولية، وإن لم يحدث هذا الضغط، فليكن مجلس الأمن على استعداد لعقد اجتماعات أخرى لمحاولة ضخ الدم في عملية السلام التي طال خمودها جسدا هامدا بلا حراك بسبب سلوك إسرائيل، هذا السلوك القائم على الاستخفاف بمجلس الأمن وكل ما يصدر عن الأمم المتحدة من قرارات لم تعد كونها حبرا على ورق معلقاً في زوايا الإهمال.