القراءة فعل انبعاث لأموات دفنوا في المعاني والكلمات, هكذا قال بورخيس, الذي تمنى يوماً ان يكون الفردوس على هيئة مكتبة! أما قديم الشعر العربي فأكد أن خير جليس في الأنام كتاب.
ما يلفت الانتباه حقاً هو تلك الفورة في طباعة الكتاب من حيث الكم – مع التحفظ على النوع – والذي يترافق غالباً بكساد في سوق القراءة ،فلمن تطبع الكتب وتنشر إن لم تجد من يوقظ موات معانيها وكلماتها؟ هذا في الطرف الخاص بنا, اما في الطرف الآخر فسيذهلك أن تعلم عدد الكتب التي تنشر في العالم الغربي – ليس لدي إحصائيات شاملة – لكن تتوفر معلومات موثقة عن ذلك بالنسبة لألمانيا وفرنسا.
في كتاب ( حقائق عن ألمانيا ) الصادر عن دار نشر سوسيتيتس في فرانكفورت بالتعاون مع وزارة الخارجية الألمانية عام 2008 أرقام تستوقفك, ففي البلد الذي يملك ثالث أكبر اقتصاد في العالم ما زال الكتاب يحظى باهتمام السكان, فثمة 95000 كتاب جديد أو إصدار جديد في العام, وتباع حقوق النشر سنويا لما يقارب 9000 كتاب ألماني في الخارج , إذاً ما زالت ثقافة الكتاب والقراءة تتمتع بمكانة رفيعة في ألمانيا، وقد وصل حجم مبيعات سوق الكتاب فيها عام 2006 إلى 9,3 مليار يورو، ويصل العدد الإجمالي للكتب والمطبوعات المشابهة لها التي تصدر عن دور النشر في ألمانيا إلى 970 مليون, وهناك أكثر من 4000 دار لبيع الكتب إلى جانب ما يقترب من 7500 مكتبة, وتتركز دور النشر في ميونيخ وبرلين وفرانكفورت وشتوتغارت وكولن وهامبورغ. ربما كان معرض فرانكفورت للكتاب واحداً من أهم المعارض في العالم, وقد تأسس عام 1949، ويقام بشكل سنوي في فصل الخريف وهو الحدث الأهم في مجال صناعة الكتاب على الصعيد العالمي, وتتجلى ذروة نشاطاته المرافقة بمنح جائزة السلام الألمانية للكتاب.
أما الحديث عن الكتاب في فرنسا فله طعم خاص ومميز, لأنه الحديث عن باريس عاصمة النور التاريخية. في ملف خاص أفردته مجلة فرانس لابل في عددها 69 لعام 2008 حول الكتب والناس، ثمة سؤال واقعي ومنطقي: ما المكانة التي يحتلها الكتاب اليوم في المجتمع الفرنسي؟ ما الدور الذي تلعبه المكتبات العامة والترجمة في ترويج المؤلفات وتوزيعها؟ تؤكد المجلة في ملفها ذاك أن من تنبأ بفناء الكتاب مع انتشار الانترنيت قد خاب ظنه, لأنه ما زال يتربع على العرش كسلعة ثقافية أولى في فرنسا, فيمثل نصف مشتريات الأسرة الثقافية. في عام 2006 اشترى الفرنسيون 494 مليون كتاب, وطرح قطاع النشر حوالي 68 ألف عنوان نصفها من الأعمال الجديدة. يعتقد الفرنسيون انهم يحققون نجاحاً حين ينجبون طفلاً, ويزرعون شجرة, ويؤلفون كتاباً!
الكتاب كعادة استهلاكية
تلاءم قطاع النشر الفرنسي مع عادات الأسرة الاستهلاكية لذا فمن الطبيعي أن يباع عمل من بين خمسة في المحلات الكبرى، كما صار للكتاب حيز من الوجود في محطات البنزين على الطرق السريعة ومحال أدوات الحدائق, وفي محطات السكك الحديدية والمطارات , لذا سوف نرى أعداداً كبيرة من القراء في وسائل النقل العامة – اعتقد أنه ليس من المنطقي محاولة الدخول في مقارنة مع ما يحدث في مجتمعاتنا العربية! من جانب آخر يصل عدد معارض الكتب التي يجري تنظيمها إلى المئات في شتى أنحاء فرنسا, وقد استطاع صالون باريس وحده اجتذاب 170000 زائر عام 2007, كما تجتذب شبكة المكتبات العامة في أرجاء فرنسا أكثر من خمسة ملايين قارئ يمثل الأطفال 35% منهم. من الطريف أن نشير إلى أن كافة الاستطلاعات برهنت على ان الفرنسيات يقرأن أكثر من الفرنسيين فيشكلن ثلاثة أرباع جمهور قراء الروايات, بينما تصل نسبة قارئات المقالات السياسية أو الاقتصادية إلى 52% وإلى 56% لكتب التاريخ.
الاندماج الاجتماعي
أشياء كثيرة تدعو لاعتبار الفرنسيين – حسب فرانس لابل – فئران مكتبات, إذ تحتل المكتبات المرتبة الثانية بعد دور السينما بتردد الزوار عليها. يبلغ عدد المكتبات التابعة للبلديات 300 مكتبة وهي تلعب دوراً رئيساً في توسيع شبكة القراءة العامة, وتخدم اليوم ثلثي السكان تقريباً عبر 35 ألف عامل فيها, وبغية زيادة عدد المترددين عليها وجذب الجمهور, طورت تلك المكتبات نفسها بشكل كبير عبر تصور جديد للمساحات, والتحول إلى مكتبات للوسائط المتعددة وإدخال نظام المعلوماتية, وإتاحة الدخول على شبكة الانترنيت وغير ذلك, كما بدأت نشاطات غير مسبوقة كورشات للكتابة ومعارض ومناقشات وتظاهرات أدبية وعروض أفلام واستعراضات فنية, بل لقد أصبحت مكاناً أساسياً للاندماج الاجتماعي وتعلم المواطنة إلى جانب الحصول على المعلومة والثقافة والتدريب ووسائل التسلية.
قالوا
في استطلاع لآراء بعض الكتّاب والمثقفين الفرنسيين عن الكتاب، ورد الكثير من الأقوال والتعابير يمكن تلخيص بعضها:
أولفييه بوافر دارفور قال: لقد اجتازت الكتب قروناً لتصل إلينا بكلماتها وأشكالها القديمة, لقد تعلمت أن أفهم ذاتي من خلالها, واخترت أن أنصت للآخرين عبر كتاباتهم. لم يخنّي كتاب قط! وأنا أشتاق دوماً للكتاب. أما ليدي سالفاير فقد أكدت انها ولدت في كتاب... لقد ولدت وأنا أقرأ, أنا أنتمي إلى الكتب, حينما يموج العالم بالضوضاء فهي تريحني, أنا أقرأ إذاً أنا اعيش, الكتب هي صباحي ومسائي. وقالت الروائية ماري داريوسيك: أن تقرأ يعني أن تغيب عن العالم, أن تعود إلى العالم من جديد, أن تكون وحدك والعالم بين يديك, أن تقرأ وتكتب, هذه هي بداية الانتماء إلى العالم. ويقول جيل لابوج: عندما كنت طفلاً كان كل كتاب يبدو لي كالسحر, ما أن تقع عيناي على كتاب، حتى ينفتح عالم عجيب, مما جعلني أنظر إلى أكثر المكتبات تواضعاً على أنها متجر للمعجزات.