ونعيش عمرنا لنطوقه, ونبحث عن شفاء له, فنزور عيادات الاطباء والمشافي, ونجرب الادوية, بل ننتقل في لحظة ما, من كشوفات العلوم, إلى الشعوذة والخرافة, وما يسمى بالطب الشعبي, ولنا في ذلك عذر لأننا لا نختار أمراضنا, بل تختارها لنا مصادفات الخلل الحيوي, أو الجسدي, تماما كما لا نختار أسماءنا, بل تختارها لنا رغبات الكبار, وذكرياتهم, وقصصهم التي ستشبه, فيما بعد قصصنا, رغم أننا نولد انقياء منها! ورغم أن المرض يحرم صاحبه من متع الحياة وينغص عليه عيشه, ويستنزف جيبه في معركة خفية, مديدة, فإنه أطوع, وأهون على النفس من الاحتكاك بمريض مهووس بالحقد.
فالمريض جسديا يجد بعض المسكنات إن لم يحظ بالدواء الشافي أما الحاقد فلا مسكن له ولا دواء, يحاصرك بالترصد والملاحقة, والتقارير الشفوية, والتشويه المتعمد, واجتزاء الحقائق, وتوظيف التفاصيل, وخلط الاوراق, وتعجب من قدرته على تكثير وتخصيب وتسميد كراهيته لكل جميل في هذا العالم, بحيث لا يكف عن اطلاق أشعة ضغينته على الآخرين, وشيئا فشيئا يعطي الحقد صاحبه ملامح تقليدية, فيصبح, ربما دون أن يدري, أصفر الوجه, محني الرأس (لا لإخفاء صفرته, بل لثقل الكراهية التي يكنها للاخرين) وتراه بحق, كالح الشعر, متعثر الخطا, مرتبك الحركات, صوته مريض, متهدج, كأن وترا واحدا منه هو الذي يعمل? وهو كثير التجوال في محيط من يحقد عليهم, لا مانع لديه من التقرب المتزلف من بعض الاشخاص, لتغذية معلوماته, ومع تقدم العمر فيه, يصبح نموذجا لتلك الرسوم, التي توجز شكل الشيطان..
وعلى سيرة الرسوم أتذكر حكاية عن مخلوقة, كانت ناشطة في هذا الحقل, منذ يفاعتها, وكان يقال فيها: قدروا ظروفها لأنها صدمت عاطفيا, صدمة عنيفة, وكانت تتدفق فجأة بالحب والاقبال وحمل الهدايا من نمط.. الزيتون المكبوس والمكدوس الغارق بالزيت, والزيارات الطويلة المشبعة بقصص المحبة الممجوجة, التي يجب أن تكون بلا غاية.. وقمنا بإيصالها الى منزلها في ليلة ماطرة.. وفي الطريق, على حافة ما كان يسمى بآخر الخط في منطقة المهاجرين (قبل أن تعلو الخطوط حتى قمة قاسيون) فاض حبها من جديد, وطلبت أن نتوقف أمام عربة الفول النابت, لتفرح الاطفال بطعم الفول والليمون والكمون.. كان المطر يهطل, والنعاس قد داعب أصغر الاطفال, لكنه ككل الاطفال الذين تهدهدهم السيارة, يستيقظون لحظة توقفها, وقد أفاق من غفوته لحظة عبرت أمام الزجاج, ويبدو أنه رآها على خلفية المطر, وبطريقة طفل أندرسن, للملك العاري, فخبأ رأسه قائلا: ماما.. هذه الساحرة التي تطبخ الاطفال في المراجل السوداء? ومرت أعوام طويلة, افترقت فيها عمن لم تستطع إخفاء حقيقتها عن طفل كان يرى العالم بعينين نقيتين, لم تخالطهما اللياقة الاجتماعية, والتعقل, لأعود فيما بعد الى لقائها, وقد تحول مرضها الى جيوب, متناقضة, اذ باتت تتردد الى ضحايا الماضي, وتسخو في الوصايا الاخلاقية, والتصوف, والحشمة, والعفاف.. ثم تبدأ بتمزيق ضحية جديدة بذريعة خطرها على القيم الاجتماعية.. لا يردعها عن ذلك عدم تقاطع هذه الضحية معها في أي شيء مشترك!.
الغريب أن سلوك الشخصية, أي شخصية, يتواتر كالتنويع على الوتر الواحد, لكن ابتلاء الإنسان بمريض الحقد, عن طريق العشرة أو الجيرة, أو الزمالة, يجعله يتجنب البحث في دوافعه العميقة, بل إن بعض الجدة في سلوكه, تبدد قيمة كل القراءات في علم النفس, وفي الغوص في مسألة العقد النفسية, التي تحكم سلوك الإنسان, إذ كيف وأين نصنف هؤلاء, الذين بحمد الله, ليسوا كثيرين وإلا كان الهواء والنقاء قد ثقلا علينا? ولو كانوا كثيرين وشاغلونا بترصدهم لنا, ما استطعنا إنجاز شيء, مثلهم, مثل المرض العضال الذي لا شفاء له, والذي يحول ليلنا ونهارنا, إلى ألم ممض نظن أنه يلاحقنا, لكننا في الواقع, نلاحقه لعله يرأف بنا هو الذي أوقف كل نشاطات حياتنا!. أشفق كثيرا على الحاقد, العريق في حقده, لأنه مصاب بالعمى, ولا يرى ظله في عيون الآخرين, وقد أزالوه من وجودهم وباتت ألعابه بلا رائحة ولا إبداع ولا تأثير, إذ يبدو أن الابداع موجود حتى في الحقد البشري الذي لا دواء له.