تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الطريق إلى بداية الحلقة

الرسم بالكلمات
الأثنين 15-12-2008
إنعام أبو غانم

واقفاً كنت أمام الهيئة العليا في رتل طويل..طويل، كانوا ذوي قامات عملاقة ووجوه اختفت معالمها، غارت في الجلد، بحثت عن شيء واحد يذكرني بتلك الشخصيات لما أجده.

الرتل طويل وقد يأخذ أحدهم مكاني فطالما رجعت إلى بيتي بعد ساعات الانتظار الطويلة المريرة الضائعة سدىً. ولطالما وجدت في عيون الكل «كالعادة عاد بخفي حنين». لكن الغريب أن الرتل الطويل الذي بدأ وكأنه يصل إلى نهاية الأرض كان منظماً لماذا؟..لماذا؟‏

يتلو الرئيس الأعلى للهيئة أربعة عشر ألفاً وتسعمئة وخمسة وثلاثين، الرقم مسجل باسم شاهر بن حمدان بن... آدم.‏

التصقت بالأرض أكثر، المسامير المحلزنة التي كانت تشد فكي السفلي تفقد مفعولها، فيتدلى، الأقفال التي سجنت عيني داخل الحجاج، كُسرت، فُتحت الأبواب، جحظت عيناي. ياللغرابة، كيف عرف كل هذا؟ إنه يعرف السلالة كلها. تعيد صرخته التالية كل شيء إلى الطبيعة، أقف مجدداً، رجلاي ترتجفان رهبة.‏

- الرئيس: إليك هذه الورقة، إنها تصريح شخصي لتحادث السادة في تلك القاعة.‏

أتناول الورقة ثم أدخل القاعة الضيقة، شعرت أن السقف يقترب مني وأني أصبح أصغر. بشغب الطفولة يسري في شراييني، ولاأفعل شيئاً، أتذكر الشخصيات وأتسمر أكثر فأكثر.‏

- أصرخ: كلكم هنا.. مجدداً معاً..ألم تكونوا خارجاً؟‏

المدير: اصمت التزم حدودك يا ولد.‏

أزداد توحداً مع المكان الذي اختارته قدماي، تزول نوبة الجنون الطفولي، فأرجع إلى ثوب الاستكانة.‏

أردد في نفسي: بلى ياولد، كن مهذباً ومطيعاً لتكون وقوراً!‏

يفتح الباب فجأة، ويدخل أبي وأمي وشغف، ثلاثتهم معاً وفي مكان واحد.‏

أقول نزقاً: ما جاء بكم إلى هنا؟‏

أبي أتصحبها معك؟ أنت لم ترضَ بمحادثتي معها.‏

أسقط، أحبو على أربع، أتذكر يوم نطقت أولى كلماتي، يومها زارنا أبو الفوارس كما ينادونه، وحاول أن ينتزع مني بعض الكلمات.‏

أبو الفوارس: قل لي ياشاهر، ماذا ستعمل حين تكبر؟‏

وبسرعة ودهشة وضحكة يجيب أبي: دكتور ياأبا الفوارس، أهذا أمر يسأل عنه؟‏

ويقهقه، يقهقه طويلاً، تقهقه معه الجدران والنوافذ والكرسي الخشبي والمرآة الصدئة..كلهم يقهقهون.‏

ولاحقاً أسأل الأطفال أترابي: مامعنى (دكتور)؟‏

وأعرف أننا كلنا، لانعرف معنى الكلمة، ولكن كل منا سيكون دكتوراً..أكيد كلنا!‏

أكبر أكثر، أتعلم في المدرسة أحرك القلم لأكتب (بابا، ماما...) وكلمات متشابهة الأحرف، أحمل دفتري وأقدمه للمدرسة، فتفتح فمها راسمة الدهشة وتقول، مرحى، أنت رائع، ممتاز.‏

تتناول المدرسة القلم المملوء بالدم كما نعتقد، قلم حلمت أن أكتب به على دفتري كلمات حمراء - لم يكن بوسع أحدنا أن يستعمله - تحرك المدرسة قلمها الأحمر لتكتب كلمات بقيت تلك الليلة أحاول تفسيرها، واكتشفت أخيراً أنها »ممتاز يادكتور«.‏

بعد العناء الطويل أحمل الدفتر ليراه أبي، أقف إلى جواره، أناوله قلم أختي هيفاء الأزرق، وأنتظر..‏

تهرب دمعة من عينيه تفضح حنانه، وتميت تلك النبرة الخشنة في صوته، يربت على كتفي، ويقول: إن لم نكن فكونوا.‏

يناولني الدفتر، أمشي بتؤدة، لم أعهده يبكي، هل كتبت المدرسة مالا يناسبه؟ يعيدني إليه، ليقبلني ثم يفتح جزدانه ويلتقط ليرة كبيرة كبيرة بحجم يدي.‏

يقول: خذ ياولد أنت شاطر وتستحق.‏

ألتقط الليرة وآخذ شجاعتي وشغبي اللذين كنت قد نسيتهما بجانب أبي قبل برهة، وأخرج راكضاً من الغرفة.‏

تتوالى الليرات يوماً إثر يوم، وأجتهد أكثر، دفاتري تغص بالدكاترة،أبقى كذلك أحلم بالحقيبة السوداء، بالأدوات الطبية، بميزان الحرارة ومقياس الضغط والسماعة وأشياء كثيرة لم أحظ بشرف التعرف إليها، لكنها كانت تناديني من داخل الحقيبة.‏

أرفع رأسي، ألملم ركبتيّ وذراعيّ عن بلاط القاعة، أقف مجدداً، أبحث عن أبي وأمي، وأصبح وجهاً لوجه مع مدرسيّ، أود أن تنطلق كلماتي، لكنها لم تكن لتفعل ولم تملأ جو القاعة كما كنت أتصور..‏

أردت أن تمر إلى مسامعهم لكن المخاض كان قاسياً ولم يسفر إلا عن كلمات ممزقة مترامية على أرض القاعة، في زواياها البعيدة، هنا أمامي (أم تتبع دورة تعليمية؟)، في مكان آخر (تعاقد مع أستاذ يزورك في البيت)، هناك صرخة لم تخرج، وهناك دمعة أحرقتني، في زاوية أخرى (أقنع أبا عصام وتابع درساً إضافياً)، في زاوية معتمة (أبو عصام مستخدم المدرسة)، وعلى العتبة كادت تقع من ذاكرتي أيضاً (عذراً لن أشرح)، (المدرس لم يحضر)، (لن يكتمل المنهاج فالوقت ضيق)، (المخبر غير مجهز).‏

(ضع العلامة التي تريد في متناول يدك ثم أدخل الامتحان فهذه توقعات مذهلة).‏

تتداخل السينات والعينات وتتقاطع النقاط مع الحروف، كل المعلومات غدت تضرب رؤوسها بالأسقف والجدران.‏

أرجع إلى وضعي السابق متكئاً على أطرافي الأربعة، ورأسي مجدداً تشده الأرض، تدور فيه الفكر، وتتساقط وربما تموت، لاتلبث أن تفقد الأرض جاذبيتها للرأس اليابس العنيد، فأرفعه إلى الأعلى وحينئذ عادت كل الوجوه إلى حالة الغموض الأولى، معالم ضائعة وقامات طويلة عملاقة.‏

تتقدم شغف، تجثو لتواسيني ربما.‏

شغف: شاهر ستكون دكتوراً.‏

أصرخ: لا، لا، لاأريد، ما امتياز الطب؟ وهل يخوله ذلك الامتياز ليتربع على عرش إنسانيتنا؟‏

يعلو السقف مجدداً، ليصبح بإمكان رئيس الهيئة الدخول إلى القاعة، يقف، وتمتط قامته، ويتعملق أكثر، تتمزق ملابسه، يصبح مارداً.‏

يصرخ: هات التصريح.‏

أناوله التصريح، ويتابع اذهب..اخرج..انتظر في رتل السنة القادمة.‏

ألملم قوايّ المبعثرة الممزقة، أفتح باب القاعة التي غدت معلقة في السحاب.‏

يردد المارد: اذهب إلى الهاوية..اسقط..‏

تختنق صرخاتي...‏

أحس بيد تهزني، هي يد أمي، تعلمني بصدور النتائج، أقوم متثاقل الخطا، أحلق ذقني، أغتسل، أرتدي ملابسي وأنطلق..‏

أصل المدرسة، أدقق بين الأسماء، وأقول في نفسي (معظم الطلاب كانوا يحلمون بدراسة الطب).‏

وأتذكر في طريق العودة صرخات المارد: (انتظر في رتل السنة القادمة) وتظل تئز وترن في أذني.‏

(انتظر في رتل السنة القادمة...رتل السنة القادمة..السنة القادمة. القادمة..القادمة..القادمة..).‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية