تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


القناعة من زوايا آخرى

آراء
الأثنين 15-12-2008
أ.د يوسف سليم سلامة

من مأثور العرب قولهم:( القناعة كنز لا يفنى) . و لا يخفى ما ينطوي عليه هذا القول من بلاغة ناجمة عن التضاد أو التناقض الذي يشكل صلب هذا القول وماهيته. فالقناعة تشير إلى القليل.

بل إلى أقل القليل. والكنز يشير إلى الكثير بل إلى أكثر الكثير لكونه قد وصف في هذا القول بأنه لا يفنى. وقد نقلت هذه الصفة الأخيرة للكنز من كونه شيئاً مادياً إلى كونه عنصراً روحياً وأخلاقياً. ومن ثم لم تعد القناعة تشير في ضوء ذلك إلى القليل المادي، بل أضحت موقفاً أخلاقياً من العالم الذي يحيا فيه المرء. هي موقف أخلاقي يدعو صاحبه إلى التعالي عن كنوز الأرض و أن يستبدل بها قوة الذات و سلطانها على نفسها المتمثلة في مقدرة الأنا على ضبط ذاته حيال عالمه ، بل و التعالي على هذا العالم نفسه كل ما كان هذا الأمر ضرورياً.‏

مما لاشك فيه أننا هنا بإزاء موقف سام ورفيع من الناحية الأخلاقية. غير أن ما لا ينبغي أن تفوتنا ملاحظته هو أن الموقف الأخلاقي موقف فردي، ومن ثم فإننا في حاجة إلى ما يتجاوز هذا الموقف الفردي نحو موقف كلي من العالم من ناحية ، و أن نبحث من ناحية أخرى، عن دلالة جديدة لهذا القول البليغ في العالم الذي نعيش في إهابه.‏

وعلى كل حال فإن هذا الموقف الأخلاقي، الفردي بطبيعته ، ينطوي على ثنائية عجيبة جداً فهو ينطوي على قوة الأنا الذي يزهد في كل ما عدا ذاته. مؤثراً الاحتفاظ بهدوئه و سكينته و تماسكه حيال كنوز العالم بأسرها ، وزاهداً ، في كل شيء إلا ذاته التي يريد لها أن تظل مركزاً لكل ما عداها ، وسلطة تشرع لكل ما هو واقع خارج الذات أو الأنا.‏

غير أن هذا الموقف الأخلاقي في ذاته ينطوي على ضعف ظاهر و مبالغ فيه، فإذا كانت قوة الأنا قد أتت من زهده في العالم، فإن هذا الزهد يترك العالم كما هو من غير أن يمارس فيه أدنى تأثير أو أقل تغيير. و من ثم فإن العالم يظل على ما هو عليه، أي على المسافة نفسها من الأنا ، هذه المسافة التي تضمن للعالم أن يظل على ما هو عليه من غير أن يكون للأنا دور في صياغة هذا العالم أو إنتاجه.‏

فالمحصلة التي ينتهي إليها الموقف الأخلاقي لا تزيد عن كونها خلاصاً فردياً يضمن للمرء نوعاً من المصالحة بين الأنا والعالم ناجمة عن استسلام الأنا و قبوله بشروط العالم القائم. و من هنا يأتي الطابع الفردي للموقف الأخلاقي.‏

ربما كان هذا الموقف يليق بالحكيم الرواقي الذي ينطلق من ضرورة تحقيق الانسجام المسبق بينه و بين العالم القائم ، و الذي يرى أن من واجب الحكيم أن يطوع إرادته ويروضها على الانسجام مع العالم القائم و التكيف مع اشتراطاته.‏

ربما كانت المواقف المنطلقة من الحكمة والتأويلات المدافعة عنها أمراً مقبولاً في حدود مجتمع معين قد أقر أفراده، بصورة أو بأخرى ، بأن هذا دور الحكمة في مجتمعهم . أما نحن اليوم، أبناء القرن الحادي والعشرين ، و الذين نحيا في عصر الجماهير فلا بد أن يكون لنا تأويل آخر و موقف آخر من تأويل القناعة على هذا النحو من حيث إنها كنز لا يفنى.‏

أستاذ الفلسفة في جامعة Salamahyouaaef@ ">دمشق‏

Salamahyouaaef@ yahoo .com‏

تعليقات الزوار

أيمن الدالاتي - الوطن العربي |  dalatione@hotmail.com | 15/12/2008 09:27

إن حسنت أخلاق كل فرد من النخب النافذة والفاعلة كان الموقف الجماعي للمجتمع لايخرج عن القيم العليا, سواء في السلوك النفسي أم النهج المادي, إنما مشكلة عالمنا اليوم أن النخب النافذة فاسدة.

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية