ونصف الساعة للقاء رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية السيد محمود عباس, ومن يدري فقد يكون (أولمرت) كذلك هارباً من التزاماته ومواعيده الأخرى, وإلا فما كان ليستطيع أن يجد تلك المساحة الكبيرة من الوقت, يخصصها لموضوع لا يبدو له على تلك الدرجة الكبيرة من الأهمية ألا وهو موضوع إقامة الدولة الفلسطينية.
وكيف لا يتمتع بتلك الرحابة وصدره قد خلا من الذرة الأخيرة من الإنسانية, وهذا الخلو هو الذي هيأ له الجو المناسب ليمعن قتلاً وإبادة سارحاً مارحاً في كل شبر من الأراضي الفلسطينية المحتلة, تاركاً الحبل على الغارب لقادته العسكريين ليتفننوا في إبادة الشعب العربي الفلسطيني الصامد في وجه النار والإعصار حتى الرمق الأخير.
وليس موضوع رحابة صدره أو ضيقه بتلك المحطة التي يرى المهتمون بالشأن الفلسطيني أنها تستحق التأمل أو التحليل, لكنها كانت مقدمة وجدوا أنفسهم مضطرين إلى الدخول في تفاصيلها, لأنها قد أوجزت فصول كتاب اللقاءات المتكررة بين رئيس وزراء مخادع مسوف ورئيس سلطة يجد نفسه مكرهاً على انتظار الكذاب وراء أو أمام الباب عسى هذا الكذاب يتخلى عن طبيعته في تقديم الوعود المعسولة الفارغة قذفها طحيناً لرحى الزمن التي تدور بسرعة حيناً وببطء أحياناً أخرى لتسحق هذا الطحين, وتحت تلك الرحى المجنونة آمال طويلة عريضة للشعب الفلسطيني المتشبث برؤية وطنه واقعاً حياً لا حلماً ميتاً.
الجانب الأكبر من اهتمام (أولمرت) خلال طرحه ما لديه من أفكار بناءة وهي في حقيقتها هدامة, انصب على تصوير المؤتمر الدولي المرتقب الذي سيشهده الخريف القادم على أنه جنات تجري من تحتها الأنهار, وما على أولئك المؤمنين بهذا المؤتمر إلا أن يتصوروا حجم النعيم الذي سيغرقون في أنهار عسله وخمره إذا فكوا رموز اللغة البديعة التي صاغ بها الرئيس الأميركي (جورج بوش) أفكاره الرهيبة تلك الأفكار التي أفضت إلى بدعة المؤتمر الدولي.
ورأى (أولمرت) أن أولئك المحرومين من فردوس المؤتمر سيفوتون على أنفسهم فرصة حبلى بالمفاجآت الثمينة السمينة إذا لم يسارعوا إلى تلبية دعوة (المعلم) الأمريكي لحضور المؤتمر.
وبما أن الترياق متدفق من جنات المؤتمر وأوراقه الخريفية المتساقطة قبل وخلال انعقاده فقد أسعفت القريحة الوقادة (أولمرت) ليذكر جليسه بأن إقامة الدولة الفلسطينية صحراء يمكن أن تتفجر بحيرات وظلالاً إذا ملك الطرفان الإدارة اللازمة لذلك, وأسدى النصح بتشكيل فرق عمل فنية مشتركة لبحث مبدأ الدولتين.
وقد يبدو المقصود بمعنى فرق العمل الفنية عصياً على الفهم مادام المصطلح إسرائيلي المنبع والمصب, و(أولمرت) يحمل بامتياز اكتشافه أو اختراعه, ولا بأس من التذكير أن هذه الفرق تعني بالمفهوم الإسرائيلي الاستمرار في حصار الشعب الفلسطيني, وسلبه رغيف معاشه اليومي, وقطع الماء والكهرباء وحتى الهواء عنه, وسيشهد التاريخ أن رئيس وزراء الكيان الصهيوني كان (منصفاً) في توزيع هدايا القتل وتدمير البنية التحتية على أبناء الشعب الفلسطيني والأمر سيان لديه سواء تعلق الموضوع (بحماس) أم (فتح) لكي لا يشتكي أحد الطرفين أن قسمته قسمة ضيزى, فالدم الفلسطيني كما يرى غلاة الصهاينة و(أولمرت) في مقدمتهم حلال للحراب الإسرائيلية التي أدمنت بقر البطون الفلسطينية متلذذة بقتل هذا الشعب العربي القادر على الوقوف في وجه الآلة الهمجية الإسرائيلية.
أما ثمار الإفراج عن بعض المعتقلين من أبناء شعبنا الفلسطيني فقد رأى (أولمرت) أنها ماتزال فجة بعض الشيء ولا بأس من انتظار موعد نضجها, وبصرف النظر عن إقدامه على هذه الخطوة أو عدم إقدامه فإنها لن تتجاوز عملية ذر رماد في العيون, لا تملك القدرة على إقناع العالم الذي يعرف حقيقة (إسرائيل) جيداً بأنها قد تكف يوماً ما عن سياستها العدوانية, وتفكر في منح الفلسطينيين نزراً يسيراً من حقوقهم.
وموضوع الحواجز التي تشكل سجوناً جديدة للفلسطينيين يزيد عددها يوماً بعد يوم ظفر بجزء من اهتمام (أولمرت) فلم يجد مانعاً من بحثها خلال اللقاء, ومن يدري فقد يكون قد قدم نصيحة بتدريب الفلسطينيين على ركوب الخيل ليستطيعوا القفز فوق هذه الحواجز, فليس لديه نية على المدى المنظور لتخفيفها ناهيك عن إزالتها.
وقد يكون على قناعة بأنهم ليسوا بحاجة إلى التنقل ولا مبرر لأن يكون لهم مضطرب واسع في الأرض الفلسطينية ذات الطول والعرض مادامت يد (أولمرت) الحانية تقدم لهم وجباتهم اليومية فالموت المجاني يصل إلى الدور الفلسطينية دون انقطاع وبأوقات منتظمة, وهو قد نجا من عدوى الماء والكهرباء بالانقطاع والندرة. هذه اللقاءات مهما خرجت على الفلسطينيين بزينتها فإنها عاجزة عن خداعهم, وهم يدركون أنها تولد ميتة, ولا سبيل أمامهم إلا المضي على طريق التمسك بحقوقهم والاستمرار في تقديم أعز ما يملكون ليظفروا بها, وهم واصلون لا محالة إلى استرداد هذه الحقوق وما مات حق وراءه مطالب.