رذاذ...التنمية وعدالة التوزيع
اقتصاديات الأحد 16/9/2007 د.مطانيوس حبيب* يختلف علماء الاقتصاد كثيراً فيما بينهم حول تعريف التنمية. ولكنهم متفقون على التمييز بينها وبين النمو.فالنمو عند الاقتصاديين هو حدوث تغيرات كمية عفوية في المجاميع الاقتصادية (الناتج الاجمالي,نصيب الفرد من الدخل ,الادخار ,الاستهلاك والاستثمار الخ..)
دون فعل إرادي مجتمعي متمثّل في تدخّل الدولة ,من ناحية, ودون حدوث تغيّر قصدي في البنى الهيكلية للاقتصاد الوطني, من ناحية أخرى. في حين تكون التنمية مجموعةً من الاجراءات والتدابير الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المعتمدة في مجتمعٍ وفقاً لمنظورٍ معين بهدف بناء آلية اقتصادية ذاتية تحقّق شروط النمو المستدام بما يحقق زيادة مضطردة في الناتج الاجمالي ورفعاً مستمراً لنصيب الفرد فيه.ولكي يتحقّق ذلك يجب توزيع الناتج المتحقق على نحوٍ عادل بين الذين يساهمون في تحقيقه. في الحقيقة كان يمكن ألاّ يكون التوزيع العادل شرطاً ضرورياً لتحقيق التنمية, كما إنه لم يكن فعلاً شرطاً لتحقيق النمو في الدول الصناعية المتقدمة في بداية سيرورة نموها الاقتصادي.حتى إن بعض الاقتصاديين يرى أن عدالة توزيع الناتج هدف يجب ألاّ تحلم به الدول الفقيرة لأن تراكم رأس المال بيد الفئات الغنية شرطٌ ضروري لتحقيق النمو.وفي الحقيقة حدث النمو في الدول الصناعية المتقدمة القديمة (انكلترة,فرنسة,ايطالية, الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها) والصناعية الحديثة (النمور الآسيوية, ماليزية, سنغافورة وغيرها) دون الاهتمام بعدالة توزيع الدخل بل وعلى حسابها. إن تاريخ تطور هذه الدول الاقتصادي مليء بالمآسي الاجتماعية وحرمان الطبقة العاملة من أبسط متطلبات الحياة. فالعمال في انكلترة مع بداية الثورة الصناعية الأولى في النصف الثاني من القرن الثامن عشر كانوا يعملون مع كل أفراد عائلاتهم ما يزيد على خمس عشرة ساعة يومياً دون أن يستطيعوا تحصيل ثمن طعامهم بالحد الأدنى, ولولا مساعدات الكنيسة التي كانت تمثل الإقطاع, مالك الأراضي ما كان يمكن للطبقة العاملة تجديد قوة عملها. وفي اليابان بين عامي 1870 و1910 بقيت الأجور الحقيقية ثابتة دون أي زيادة فعلية. وكذلك الأمر في دول جنوب شرق آسيا كان العمال يعملون بأجور متدنية حتى أُمكن لهذه الأقطار أن تبني اقتصادات متطورة,بالرغم من الدعم الذي لقيته هذه الدول من الدول الصناعية المتقدمة في العالم الغربي بهدف حمايتها من )الخطر الشيوعي) الذي كان يحيط بها.والدول الصناعية المتقدمة حقّقت التراكم الرأسمالي على حساب المستعمرات كما لم تعانِ من ضيق أسواقها بفضل تصريف فائض انتاجها في أسواق المستعمرات, أما دول جنوب شرق آسيا فقد تولت الشركات متعددة الجنسيات فتح أسواق لمنتجاتها في كل أنحاء العالم لأن هذه الشركات هي التي تولت تطوير الصناعات في هذه الدول.كان يمكن أن تتكرر تجربة هذه الدول في البلدان النامية لو أن العالم بقي مجموعة دول مستقلة تحتفظ كل منها بمواردها دون استعمار أو تبعية ودون فضائيات وثورة معلوماتية.ولكن العولمة التي تجتاح العالم تاركة الدول النامية من دون سيادة على مواردها ودون قدرة على التحكم بقراراتها الاقتصادية غيّرت شروط النمو كما غيّرت أسلوب الاستهلاك فخلقت آليات جديدة تجعل من غير الممكن تحقيق النمو العفوي في بلدان العالم الثالث.فأصحاب الدخول المرتفعة في بلدان العالم الثالث لا يخصصونها للاستثمار وحتى أنهم لا ينفقونها داخل حدود بلدانهم.فالطبقات الميسورة تنفق دخلها خارج الحدود أو على سلع كمالية تستوردها من الخارج وحتى إنها تستثمر الفائض من أموالها خارج حدود بلدانها أيضاً. وهذا يعني تسرّب قسم كبير من الدخل الى الخارج. من هنا فإن توزيع الزيادة المتحققة في الدخل, بين الفئات التي ساهمت فيها,يخلق طلباً جديداً على السلع المنتجة محلياً ويقود بالتالي الى تغيير في بنية الطلب التي تسهم بدورها في خلق العضوية الاقتصادية الداخلية المحفّزة لعملية التنمية.في حين أن سوء التوزيع يقود الى عرقلة النمو.تشير بيانات هيئة تخطيط الدولة ومسح الفقر في سورية,عام ,2004إلى أن شريحة المواطنين الأقل دخلاً(20%من السكان) كانت تحصل على 7% من الدخل الوطني فقط في حين كانت الشريحة المقابلة(20% من السكان أيضاً) الأعلى دخلاً كانت تحوز 45% من الدخل الوطني. وسيكون التباين أكثر بكثير لو أجريت المقارنة بين شريحتين أقل اتساعاً مثل شريحة 5% من السكان الأعلى والأدنى دخلاً. وكانت النتيجة أن معدلات النمو في سورية تدنت الى أقل من 2% سنوياً وتراجعت حصة الفرد من الدخل عما كانت عليه في عام ,1980 في حين تجاوزت أموال السوريين في الخارج مئة مليار دولارفي ذات الوقت. لقد انعكس سوء التوزيع ركوداً في الاقتصاد وانخفاضاً ملحوظاً في معدلات النمو بالاضافة الى تزايد عدد الفقراء وأصحاب المليارات أيضاً!!. في الواقع تخضع آلية توزيع الدخل لقوانين اقتصادية موضوعية بصرف النظر عن طبيعة النظام الاقتصادي السياسي. والفرق بين الأنظمة في التوزيع يكمن أولاً في طابع تملّك الفائض الاقتصادي,حيث يرجع في اقتصاد السوق الى مالكي وسائل الانتاج; وثانياً في آلية التصحيح,في اقتصاد السوق يتم تصحيح الخلل بحسب توازع القوى الفاعلة في المجتمع.ففي حال غياب الديموقراطية وضعف التنظيم النقابي أو تجميد نشاط النقابات, أو حتى حرف طبيعة نضالها, يسيطر مالكو وسائل الانتاج على القسم الأعظم من الفائض الاقتصادي ويبقى لأصحاب الأجور نصيبٌ متدنٍ جداً, كما كان عليه الحال في الدول الصناعية في بداية تقدّمها الاقتصادي.ولا يجري التصحيح إلاّ في حالة الركود الاقتصادي والأزمات عندما يستشعر المالكون خطر الانهيار فيوافقون على إجراء تصحيحات جزئية في توزيع الدخل بالحد الأدنى الضروري.لقد تغيّر الوضع في صالح أصحاب الأجور,في الدول المتقدمة, بعد ارتقاء القدرة التنظيمية لنقابات العمال وتنامي الممارسات الديموقراطية واقتناع الحكومات بأهمية زيادة الطلب الداخلي لامتصاص الانتاج بعد أن تحرّرت المستعمرات وبدأ الاعتماد على صناعاتها الوطنية في تلبية حاجات شعوبها. أما في الاقتصادات المخطّطة فتتحكّم الدولة بتوزيع الدخل وتحدّد الأجور في ضوء اعتبارات ثلاثة: مستوى الأسعار,تطور انتاجية العمل وحاجة الاقتصاد الوطني من الفائض الاقتصادي لتمويل الخدمات ورفع الطاقة الانتاجية بما يلبي الحاجات المتزايدة للشعب إضافة الى توفير متطلبات النمو الاقتصادي. إن إختلاف آلية توزيع الدخل يجب ألاّ تتعارض مع القوانين الموضوعية لتجديد الانتاج الاجتماعي بمعنى أن يكون قسم الدخل المخصص للاستهلاك كافياً لامتصاص الانتاج السلعي والخدمي,وأن يكون القسم المخصص للادخار كافياً لتلبية حاجة الاستثمار الضروري لزيادة الانتاج وتحقيق النمو وخلق آلية نمو ذاتي بالاضافة الى التوازن مع العالم الخارجي. فالنمو الذي لا يقوم على آلية ذاتية توفر تحقيق التوازن مع العالم الخارجي, في شروط عولمة الاقتصاد, يبقى نمواً ماكراً مهدّدا بالتوقف في أي لحظة!! وتجربة النمور الآسيوية في أواخر القرن المنصرم دليلٌ واضح على ذلك.
*وزير سابق
|