يأتي سلمان بو ريشة على سيرة زوجته، كأنها زرعت جهاز تنصت خلف أضراسه، لا يمل من مدحها والافتخار بشمائلها, حتى صار كل سامع لحكاياته ورواياته عن خصالها ومناقبها، ينظر إلى شريكته نظرة فاحصة متفحصة، تنتهي بعتاب جارح ينال من ذوقها .
بعد شجار حامي الوطيس بين جار حاسد وشريكته خاطبها بصوت أكثر من مرتفع، قال دون خجل ولا وجل:
ادخلي بيت جارتك وتعلّمي منها كيف تعتني بزوجها، كيف تخبئ له اللقمة الطيبة، كيف تعتني بملابسه، كيف تحرص على استرضائه.. مواعيد طعامه أدق من تكات الساعة، لا تنتهك زمن قيلولته، لا تترك الأولاد يسرحون ويمرحون بين حجرات البيت، تبقى حارسة أمينة على راحته، ألا تستحق بعد هذا أن تبقى سيرتها فواحة على لسانه؟ تخيلي أنها باتت ليلاً كاملاً سهرانة على الشرفة لأنه أشار إلى ملح ظاهر في طعامه، لا أدري ماذا أقول لك عن طعام عجنتيه بكل هذا الملح؟!
اتهامات تكاد لا تنتهي دفعت بالمرأة إلى غضب أحمق، لو أن كلماتها تجاوزت حيطان المنزل لأشعلت بين الجارين حرباً ضروساً ، قالت بصوت خفيض مشحون بزفير متهدج:
أتريدني مثلها عديمة الأصل قليلة الوفاء؟ اسأل سواي من الجيران, يقولون لك ماذا تفعل امرأة هذا المتباهي على الشرفة, اسألهم لماذا يبقى جارنا «حمود السلطان» مصلوباً أمامها غير آبهٍ بِحَر ولا مكترث بِقَر، قصة حب هذا العاشق المجنون صارت على كل لسان، فقد عمله، صار يزحف على بطنه جوعاً كرمى لعيني غندورة جارك المخدوع..
روى جار آخر حكاية كان شاهداً عليها، أقسم قائلاً:
كنت عند بائع الخضار أشتري ما يلزم، تريثت متأملاً جاري بو ريشة وزوجته، راقبتهما نصف ساعة تقريباً، والنصف ساعة برأيي كافية لشراء عشر سحاحير من الخضار المتنوعة، لكن جارتنا ظلت تتأنى غير مكترثة بالوقت ولا مبالية بالناس، كل حبة كوسا تحتاج إلى دراسة مستفيضة، هل هي طرية؟ هل هي من قطف النهار أم الليل؟ هل خلطها البائع مع بواقي الأمس من الكوسا؟ وحبة الكوسا بهذا الحجم صالحة للحشي أم هي للقلي والطبخ ؟ ما العدد الذي يتسع له القدر من هذا القياس..؟
وهذا كله لم يعتبره الجار الراوي شيئاً يذكر قياساً عما جرى أمام الميزان، فقد نقصت الوزنة حبة واحدة، أضافها البائع مما أمامه، رماها هكذا من غير تدقيق ولا حسابات فوق حبات الكوسا التوائم في القالب واللون والشكل. انتشلتها الزوجة الحريصة، قلبتها بين أصابعها، نظرت إلى زوجها نظرة ذات مغزى، وكأنها كانت تسأله إن كانت الحبة صالحة أو ممكنة، فعبر عن قبوله ورضاه بإيماءة من رأسه..
أبدى جار آخر ضيقه، روى متألماً:
أنا لا أبيع قيلولة الغداء بمال الأرض، هكذا أنا منذ اشتريت هذه الشقة، أجد في تلك اللحظات سعادة ما بعدها سعادة، فيها أستعيد بعضاً من قوتي ونشاطي، كأنني أدفن تعب النهار، فلا أبالي بما كان مني ومن الناس، ولا أهتم بما جاء أذية لروحي قبل حين، أخلع على الماضي القريب حلة قشيبة، فأراه أكثر مودة، وأكثر نعمة علي وعلى سواي من البشر. في تلك اللحظة التي تتوسط ميدان الاسترخاء، سمعتُ جرس الباب يُقرع قرعات سريعة متوالية، نهضتُ من فراشي نهضة لم يسبقني إليها عنترة لنجدة عبس من غزو اجتاح مضاربها، فتحتُ الباب، تطلعتُ يميناً، نظرتُ يساراً، للأعلى، للأسفل، بسملتُ وحوقلتُ علني أطرد جنياً تقصد قيلولتي..أيام ثلاثة وهذا الجني يعبث بي ويتلاعب بأعصابي، في اليوم الرابع نظرتُ إلى فراشي نظرة متحسرة، أودعتُ وسادتي كل آهات الوجع، جلست على كرسي بجوار الباب علني أقبض على الفاعل بالجرم المشهود. لأيام ثلاثة وأنا قابع أنتظر غريم قيلولتي الذي صار ألد أعدائي وأشدهم ضراوة .. مصادفة صغيرة وضعتني وجهاً لوجه أمام الفاعل، وكان ابن جارنا بو ريشة..
جار آخر صرخ ملء فمه:
عيب يا جيران، أوراق الحلوى محمولة، قشور البصل تهون، بس قشور البطاطس والبطيخ والبرتقال ..! يا جماعة، يا ناس، يا سامعين الصوت حفريات الكوسا صارت على رؤوسنا..
شكاوى كثيرة أجمعت على أن بيت بو ريشة هو مصيبة هذه العمارة المنكوبة، مشكلات لا حصر لها دعت سكان البناية إلى اجتماع عام، شمل الرجال والنساء، بحثوا وتباحثوا، درسوا وتدارسوا حقوقهم وواجباتهم, ثم توقفت جميع قطاراتهم المحملة بالوجع عند محطة هذا الجار الغائب. قال أولهم:
غريب أمر هذا الرجل، في كل مكان حل فيه، بمناسبة ومن غير مناسبة، يأتي على سيرة زوجته، يدعي أنه ولد في ليلة القدر لعيش هو فيه، الجمال، النظافة، الأناقة، اللباقة، العطر الفواح, حتى الذين منّ الله سبحانه وتعالى عليهم بجنانه ورياضه يحسدونه على سعادة لا تفارق سريره..
لعل تلك الجارة الغضوب تمنتْ لو تمزق ثيابها وتشد شعر رأسها لفرط ما هي عليه من الغيظ، لم تبتلع صمتها، نظرت إلى زوجها نظرة لا تخلو من التحدي، صرخت بصوت أكثر من مرتفع:
هذا الرجل مغلوب على أمره، لا يجرؤ على التنفس إلا بإذنها، كل هذه الروايات التي يوزعها يميناً ويساراً هي صناعتها..
واجترأت تلك المرأة مرة أخرى، عادت إلى سيرة الوفاء والشرفة التي سجن فيها حمود السلطان نفسه، لأجل امرأة عديمة الأصل..
خرجت إحدى الجارات عن وقارها، قهقهت بصوت مرتفع وقالت:
قبل أيام سمعتُ بعض الصراخ، كان مصدره بيت بو ريشة، دفعني الفضول إلى تنصت لا أحبه، سمعتها تصرخ به: لا تهرسن بأضراسك ، ازلطهن زلط ..أدفع نصف عمري لأعرف ماذا كان يزلط جارنا بو ريشة..
ضحك الجار الذي كان شاهداً على شراء كوسا المحشي، حتى استلقى على قفاه ..