كتاب مصور صدر في دمشق خلال شهر أكتوبر «تشرين الأول 2009» أنجز صوره الضوئيّة الفنان الضوئي السوري «هشام زعويط» ووضع نصوصه «حسان عباس» وقام بترجمتها إلى الفرنسيّة المؤلف و»سالي فيلان» وقد صدر برعاية شركة «توتال» سوريّة.
يقع الكتاب بنصيه: العربي والفرنسي بما يربو على 320 صفحة قطع متوسط وأفقي، وفيه يمسح المؤلفان بالصورة والمعلومة، مناطق سوريّة مختلفة منها: حلب، قرى الطين، محميّة الجبول والمحميات الطبيعيّة الأخرى في سورية، نهر الفرات، حلبيّة وزلبيّة، دير الزور، تدمر، نهر العاصي والنواعير، جبلة، قلعة المرقب، بانياس الساحل، البيوت البلاستيكيّة في الشريط الساحلي، طرطوس، شجرة الزيتون، قلعة الحصن، جبال القلمون، معلولا، اللجاة، التين، دمشق وأبوابها ومسجدها الأموي الكبير وأسواقها التقليديّة ومقابرها وسفح قاسيونها الجنوبي.
النص المكتوب
أهدى المؤلفان الكتاب «إلى سورية». قدم له حسان عباس بالتأكيد على أن عين الإنسان كليلة، والعالم فسيح ومتعدد، لذا كان لا بد للإنسان المفطور على عدم الاكتفاء بما تمنحه له طبيعته، والمسكون بشيطان المعرفة. كان لا بد له أن يخترع استطالات لحواسه تساعده في الوصول إلى الأبعد والأعمق والأوسع.
ويشير عباس إلى أنه فور اختراع الإنسان للطائرة، ألصق بها آلة تصوير، اقتصرت في البداية، على الغايات العسكريّة ثم توسعت لتشمل السياحة والجغرافيا والبيئة ... وشيئاً فشيئاً تبلور في عالم التصوير الضوئي نمط فني مستقل هو «التصوير الجوي» أو «التصوير من الجو» حيث لم تعد الصور الملتقطة من الطائرة أداة لخدمة نشاط ما، وإنما غاية بذاتها، لها جمالياتها وشروطها وعوالمها الخاصة. ثم يتساءل عباس قائلاً: أي أعجاز هو بلدي؟ 185.180 كيلو متر مربع حوت اثني عشر ألف عام من التاريخ. عشرات الحضارات عبرت أرضها أو استقرت فيها. عشرات الأقوام لجأت إليها ودخلت في نسيج مجتمعها. عشرات المعتقدات والمذاهب تتجاوز في أرجائها، بل وتتداخل في معظم الأوقات. في كل حجر حكاية، ولكل نسمة هواء تفسير.
ويضيف عباس مؤكداً: بلد هو الثقافة، وتاريخ هو التاريخ. تلك هي سوريّة التي حاول في النصوص المرافقة للصور التي أخذها الفنان زعويط لبعض مناطقها من الجو، أن يبقى في إهاب الباحث الشغوف بموضوع بحثه، فابتعد قدر المستطاع عن العواطف والعقائد، وتجنب الدعايّة السياحيّة والبلاغة الأدبيّة، وحاول أن تكون هذه النصوص أقرب ما تكون إلى الصور.
النص البصري
أما مؤلف النص البصري، في كتاب «سوريّة: رؤية من السماء» الفنان هشام زعويط، فيؤكد في مقدمته التي دعاها «السيمفوينّة غير المنتهيّة» أنه منذ أكثر من عشرين عاماً وهو يحمل الكاميرا ويتجول فيها في سورية، بلده التي لم تضن عنه بشيء، فقد شرب من ينابيعها، وتعثر بحجارتها، وتعفر بترابها، ولفحته شمسها، وتفيأ بأشجارها. احتضنته وغنت له وهدهدته. أغلقت في وجهه أبواباً. عبست معاتبة. بكت معه وبكي معها، ومعاً انتظرا الزمن الأحلى، وعلى شرفات الوقت، أظهرت له ما جعل روحه ترتدي صرخة قديمة تقول: «أنا الذي رأيت»! لقد رأى الفنان زعويط سوريّة وهي تأزر التاريخ، ورأى التاريخ أساور وخواتم في يديها وأصابها. رآها تعجن الزمن كما تعجن الطحين. ورآها ترتدي الغيوم غلالة نوم، ولكنها لا تنام. رأى زبد البحر ينصاع لرغباتها ويصبح دثاراً تتركه في عهدة العشاق الصيادين والرمال والصخور. رآها تلهو كطفلة، وتثير الغبار وترتديه. ورآها تحتضن ماءها، وتغسل وجهها وتسقي زرعها. رأى الناس مخبوئين في كل زاوية من زوايا أمجادها. أكل من خبز تنانيرها. نام في قبابها. لمس بأصابع قلبه طيبة ناسها والجسور التي تمدها أرواحهم للآخرين، وسواء أشاحت بوجهها عنه أو عانقته، فهو لا يملك إلا أن يظل عاشقاً أبدياً لها.
عين السائح وعين المُحب
ويتابع المؤلف البصري لكتاب «سوريّة: رؤية من السماء» الفنان الضوئي هشام زعويط بوحه الحميمي والصادق والمحب لبلده، مشيراً إلى أنه قبل أن يحلق في الطائرة المروحيّة برفقة المصوّر الفرنسي «يان آرتوس برتران» كان قد شاهد الصور الضوئيّة التي أنجزها الفنان التشكيلي والضوئي محمد الرومي وأخذت طريقها إلى معرض أقامه في دمشق قبل عدة سنوات، كرسه لنفس الموضوع. وبعدها بسنوات رأى الصور التي التقطها طيار فرنسي هاوٍ أيام الانتداب الفرنسي على سورية ولبنان العام 1924.
هذه المشاهدات، جعلته يميز بين صور السائح العابر الذي ينشد الغرابة، وبين العين المحبة التي تقف وراء العدسة لتصوير المعشوق بفرحه وألمه وجماله وجلاله، وتالياً دفعه لمتابعة هذا الجنس من التصوير الضوئي، وفي خطٍ موازٍ، بحث مع الجهات المعنيّة في سوريّة، حول إمكانيّة تحقيق حلمه بتصوير سوريّة من سمائها الذي تحقق العام الماضي، ضمن احتفاليّة دمشق عاصمة للثقافة العربيّة، حيث توفرت مستلزمات التحليق بمساهمة من شركة «توتال».
الرؤيّة الواسعة
يرى الفنان زعويط أن التصوير الجوي بخصوصيته، يحقق أفقاً أوسع للرؤية، ولالتقاط الجمال عن الأرض، ويمنح المصوّر شعوراً بالحرية لا يضاهيه شعور. ويؤكد أن تجارب المصورين السوريين في هذا المجال، وضحت بجلاء، امتلاكهم الكفاءات والقدرات المشفوعتين بالحب لإظهار جمال سوريّة، وتوثيقه بالصورة الضوئيّة الفنيّة القادرة على بناء المشاريع الإبداعيّة في هذا الحقل، لكنه يعود ليستدرك مؤكداً، أنه رغم المتعة الشديدة والاستثنائيّة للتصوير الجوي، له في الوقت نفسه متاعبه. فهو عمل معقد، يجب أن يسبقه بحث ودراسة وتمويل ومستلزمات كثيرة أولها وأهمها، تأمين حوامة ذات مواصفات خاصة. وطيارين صبورين، وجهداً متواتراً، ومجموعة عمل دقيقة وسريعة، ومعلومات علميّة وجغرافيّة تتجاوز اهتمامات الطيران المألوفة، وثقافة جماليّة ومعماريّة، إضافة إلى عدة التصوير المناسبة، وتوفر الجو الملائم لعمليّة التصوير، وقبل هذا وذاك، توفر الموهبة الحقيقيّة لدى المتصدين لهذه المهمة، المشفوعة بالخبرة والقدرة على تصيد اللقطة، في الوقت المناسب، وفي نفس الوقت، تحتاج عملية الفوز بهذه اللقطة، إلى شيء من الفطريّة والتلقائيّة في علاقة المصور مع كاميرته، ومع المشاهد التي تتوالى بسرعة أمام ناظره، ما يحتم عليه أن يكون في أتم الجاهزيّة لاغتنام الفرصة، والفوز باللقطة الفنيّة التي لا تتكرر بنفس الخواص الفنيّة والتعبيريّة.
سمفونيّة غير منتهيّة
بالعودة إلى صور كتاب «سوريّة: رؤية من السماء» نجد أن الفنان هشام زعويط «مواليد دمشق 1961» خرج من مغامرته الفنيّة هذه، بلقطات ضوئيّة مدهشة وساحرة، إن كان على صعيد المادة المتناولة فيها، ونظافة الرؤية، وانسجام العناصر المكونة للمشهد، وفيما بعد، القطوعات التي أجريت عليها، ما يؤكد أننا أمام إنجاز فني ضوئي متميز، عززه وصَعّد من قيمه الفنيّة والمضمونيّة، المعلومات الموثقة المرافقة لها، التي جهد الباحث حسان عباس «المولد في مصياف عام 1955 والحاصل على درجة الدكتوراه في الآداب من جامعة السوربون الجديدة في باريس» في تجميعها وتمحيصها، ما أفضى في النهاية، إلى ولادة كتاب فني توثيقي هام، يوفر لبصر المتلقي وفكره، فضاءات واسعة للمتعة والفائدة: المتعة في تلمس جماليات سوريّة المستندة إلى إرث أصيل ومتنوع، ضارب في عمق التاريخ، أخذت طريقها إلى نص بصري فني ضوئي، كتبته عدسة موهوبة وخبيرة، يقودها فنان حساس ومحب لبلده وللموضوع الذي يشتغل عليه. والفائدة التي تحتضنها النصوص المكتوبة الموضحة والشارحة للنص البصري، بكثير من التوافق، والانسجام والدقة.
هذه المزايا مجتمعة، دعمتها وأكدتها، العمليات التقانيّة المتمثلة في فرز الصور وطباعتها وإخراجها، ومن ثم عملية ربط النصين معاً: النص البصري والنص المكتوب.