يبدو أنه سيبقى موضع درس. وإذا كانت ثمة من فائدة ومحبة، فلم لا؟ لم يرد مفهوم الجمهور على الأرجح عند القباني بسياق مباشر، رغم ما تُعرف له من بيانات تتساوق وعروضه ونشاطه المسرحي بالعام.
هذا الجانب، جانب الجمهور، لا شك أنه جرى حديث عنه بنسب مختلفة، عابرة أو بوقفة معينة، لكن ما دفعني إلى ذلك هو إبراز خصوصية ما من هذا العنوان، بالرغم ما قد مر عليه من التاريخ، خصوصية يفيد أن نحملها معنا في هذه الأيام المعاصرة إن أمكن.
لا أريد أن أحيل هذا المفهوم إلى كلمات، إلى بضع كلمات تكون تعريفاً له، كي لا يصبح هذا المفهوم ذا شأن أقل. الأصح أن أستعيض عنها، إن صح التعبير، بفواصل فكرية، تنتقل داخل نسيج اسمه الجمهور، نسيج ذو خيوط قوية: النهضة، القباني، المسرح. نهضة بما كانت تهدف إليه من توجه نحو وعي اجتماعي جديد، نحو تساؤل صوب القومية، صوب الأمة، وتوجه نحو التحرر، نحو الاستقلال. حمل القباني موهبة كبيرة، وتنقل داخل دمشق وداخل سورية، ليعرف شاباً متعلماً ثم مسرحياً معانياً مكابداً مسافراً، وليشتهر في خضم عمل ما رائداً.
أما المسرح، على حد تعبيره «المرسح»، فهو بما كان من تأسيس بالدرجة الأولى. لعب القباني دوراً في الثقافة، وفي السياسة، دور يتصف بتوعية الناس وبتنويرهم. نعم، داخل هذا النسيج المتعدد المتشابك هناك وردة تنمو: الجمهور، ومفهومه في مسرح القباني.
يعتني بمادته سواء أكانت مستلهمة من تراث أم من تاريخ عربيين، كما فعل مع هارون الرشيد وغيره، أم منقولة عن آداب أجنبية كما كان أمره في حال متريدات، وعفيفة وغيرهما.
يعمل على مادته لتصبح قطعة أدبية ذات نزعة درامية، فيها الفصول والأجزاء، فيها لغة من شعر، ونثر، فيها أشخاص فاعلون في أزمنتها، وأمكنتها، وفي عناصرها. عبر هذه المادة ينبئ أنه يتوجه إلى جمهور هو بالأصل منطلقها، وإلا لماذا اختار هذه الشخصية أو تلك؟ هذا الموقف أو ذاك؟ هذا الحل أو ذاك؟
لا تبقى المادة كما هي، يعود إلى التفكير في الجمهور، ليصل إلى فضاء عرضه المسرحي. يقف عند الموسيقا من حيث هي لحن عند الغناء، من حيث هو أداء فني صوتي، ويتوقف عند الرقص من حيث هو تعبير بالحركة، ويتوقف أيضاً عند أي من عناصر هذا الفضاء، فيما هو جزء منه.
كان القباني يختار كلمات معروفة: تلحينية وأدبية وتاريخية، وتشخيصية، وغرامية، ليقدم بها نصوصه، مع تغير طفيف، ترتيباً كان أم حذفاً. كان يختار ما يريد من كل منها، يريد أن ينبئ عما في ذهنه إلى جمهوره، لا سيما بما يعني من تلحينية، من تشخيصية. إنه يربط الموسيقا والتمثيل بالدراما.
لم تتضح الدراما الموسيقية في أوروبا نسبياً إلا مؤخراً في شكلها الناضج، والمثال هو الألماني فاغنر. والقباني لم يدخل المسرح، أو بالأحرى لم يؤسس مسرحاً إلا بالمعنى الشامل للكلمة، أي بمعنى أن يتكامل فيه فن وآخر، وهذا أمر ليس سهلاً البتة.
إن المطّلع على فنونه تلك أو المستنتجها من مصادر مختلفة، لا سيما من نصوصه ونشاطه مع غيره من المسرحيين مثل اسكندر فرح ومن ذوي الاهتمام في الموسيقا والغناء مثل الشيخ سلامة حجازي الذي ابتدأ معه، ومع غيره في دمشق والإسكندرية والقاهرة؛ إن المطلع على ما كان عليه مسرحه، يدرك أن حيوية العلاقة مع الجمهور هي محتوى هام، بل أساس من محتوياته.
ثمة نظام في مسرحه يشمل المكان، التوقيت، حتى بطاقة الدخول، يشمل إلى حد بعيد انتظام جوقة في عروضه المسرحية، لا سيما في البدايات في دمشق، أمور يدركها في مجال تفعيل تلك الحيوية، منها اهتماماته في أشكال التعبير كالغناء، والموسيقا، في تذوقه رقصة السماح، الموشحات، في تعدد الألحان.
أدرك القباني حيوية تلك العلاقة، خاصة وأنه قد وصل إليها من علاقة عفوية بالمسرح، أي أنه لم يحتج إلى دراسة، أو لنقل إلى دراسة ضرورية في هذا المجال. وإدراكه هنا يوصله إلى أن الجمهور نفسه يستطيع أن يقوم بلعبة المسرح ذاتها. وقد يكون ذلك أهم ما في مسرحه.
يمكننا إدراك هذه الأهمية، عندما نعرف صعوبة إنشاء المسرح عربياً، والتوصل إلى ما يتعلق بالجمهور من وجهة نظر المسرح، أو من وجهة نظر علوم مختلفة تتقاطع مع الجمهور ومع المسرح على السواء. وكذلك تبرز هذه الأهمية إذا عرفنا من جهة ثانية الكم المختلف، خاصة الفكري منه، الذي تناول العلاقة بين العرض المسرحي والمتلقي، أي بينه وبين الجمهور، من أيام الإغريق فالرومان مروراً بمسرح العصور الوسطى إلى مسرح النهضة الأوروبي إلا ما تلاه.
لعبة المسرح يحققها ذلك الرائد، وهي بحق سمة من سمات مسرح الرواد العرب بالعام، كما تقول لنا مصادر مختلفة، أو بالأحرى كما نستنتج نحن في عصرنا، من هذه المصادر. لعبة يمكن أن تلخص بتحقيق نوع من الإيهام، إيهام معين على الخشبة أو في مكان التشخيص. ثم، وهذا الهام، جعل المشاهد قريباً منه، من هذا الإيهام ليسهل عليه فهمه والتحاور معه، وأحياناً لكي يخرقه.
علام كان القباني يعتمد من ناحية النص؟ إن الجواب على هذا السؤال يأخذ وجوهاً عدة، بادئاً أن نصه المسرحي يشكل في الأدب العربي الحديث نوعاً يختلف عن سائر أنواعه بما فيها من نثر قصصي أو حكائي ذي نشأة حديثة، حتى ذي نشأة متطورة بعض الشيء. إن بعضها يحمل اسم: رواية، رواية هذا الشخص أو ذاك، فهو – أي النص – يحيلك إلى جنس أدبي من خلال حواره إلى تعريف آخر، على جو هذا الجنس الأدبي، إلى دراما، فيه تتحقق علاقة جيدة بين دراما وأدب، بين دراما ومسرح.
الدراما الأوروبية نفسها لم تتكون – كما هو معروف – إلا عبر مراحل، وكان إبسن النرويجي مثالاً لأحد رموزها في منتصف القرن التاسع عشر. وعند القباني ولدت الدراما وكأنها وحيدة، وهي بحق تعكس وجهاً هاماً. إنه وجه معالجة قضاياها. قد يبدو هذا الوجه الأهم في مسائلها ذات العلاقة مع الجمهور، إذ أُخضع إلى سنوات تاريخ نهضوي عربي معين، ما بعد الربع الأول من القرن التاسع عشر، إذا أُخضع أيضاً إلى تلمس ما كان يريده القباني.
يعرض القباني الخليفة هارون الرشيد مع غانم بن أيوب الأمير وقوت القلوب الجارية، في تقابل آخر في رواية ثانية مع أنس الجليس، لنجد مسائل مباشرة في مسائل الدولة: الزواج، الحب، الغدر، الوفاء، الخيانة، الأمانة. وكذلك ما فعله في رواية الأمير محمود نجل شاه العجم، علماً أن ذلك الظرف التاريخي، أي ظرف القباني الزماني والمكاني، من سماته أن يعبر عن تلك المسائل التي تتعلق بالدولة والأمة، ويذهب إلى أبعد من ذلك، إلى أشخاص مثل السياف في رواية عفيفة، لترجع إلى شرطها الأول، الإنساني والحياتي. هذا، بعد أن يكلف من وكيل الديوان بقتل عفيفة، يحس أنها بريئة، فيحافظ عليها وعلى وليدها الذي وضعته في زنزانة من زنزانات ذلك الوكيل.
بنظرة عامة إلى مسرحه، نجد أن مفهوم الجمهور هو حجر الزاوية عنده، حجر زاوية تشابك المسرح وقضايا عصره أيضاً: الجمهور في هذه الحال صلة الربط بين مسرح وعصره.
من هنا يبرز القباني أحد رجالات النهضة العربية إبان القرن التاسع عشر، وهذا واضح مما رأيناه من تطبيق حيال هذه المسألة، مسألة الجمهور، وغيرها من مسائل مسرحه، لا سيما الفنية منها، غذ أنها كانت المستوى التطبيقي لما كان يفكر فيه بالعام، من مسرح، وغيره مما هو حياتي.
ما معنى أن يخون وكيل ديوان عهداً كان قد وضعه على نفسه وعلى عفيفة؟ ما معنى أن تفضح أنثى أسياداً من خلال الدفاع عن شرفها وعن جسدها؟ مثل هذه الأسئلة كثير. هنا يظهر دور القباني الإصلاحي، ويقوم بدوره المسرحي الثقافي النهضوي، بل والإنساني.
لاقى القباني على يد الجمهور «رغم تنوع أطيافه» اضطهاداً، سواء في دمشق أو في القاهرة. من لم يسمع بالشيخ سعيد القبرا أحد المحافظين في دمشق آنذاك، وبعريضته التي ألقاها أمام السلطان في الأستانة استعداء على القباني: «أدركنا يا أمير المؤمنين، فإن الفسق والفجور قد تفشيا في الشام..». لم يكن الجمهور عموماً سلبياً، إذ كان ذلك زمن نهضة بمعنى ما.
إن التنويع الذي كان يستهل به كل نص أو رواية من رواياته، بعد اسمها، لم يكن لنجرد الاسم فقط، بل كان إشارة هامة لما ستكون عليه هذه الرواية أو تلك: تاريخية يقابلها شيء، تلحينية يقابلها شيء آخر، تشخيصية..
الهام هنا أن هذا الشيء المقابل المستنتج من النص، من العرض أيضاً، ما كان ليكون لولا الحيوية في مسرحه، ولولا ما في ذهنه من مفهوم موجه نحو الجمهور، وولولا ما كان يحس بما يريده جمهور مسرحه من معارض أو مؤيد على السواء وبالدرجات المتفاوتة.
ترابطت أقانيم الجمهور والمسرح والنهضة والوطنية في مسرح القباني. وكان مفهوم الجمهور هو الجزء الأهم في مسرحه، مفهوم يلجأ إليه القباني أولاً بعفويته وباندفاعه نحو المسرح، نحو النهضوية الوطنية والاجتماعية، وثانياً نحو النهضوية العربية التحريرية. علّ هذا المفهوم من أهم مفاهيم مسرحنا العربي التي يستفاد منها بحق.