يشكّل العتبة الأولى لأزمة الناقد العربيّ، ذلك أنّ تحوّلات كبرى اكتنفت تاريخ الفكر، وتعدّدت النظريّات الفلسفيّة، والمناهج النقديّة، وقطع فنّ الرواية عالميّاً، وعربيّاً مرحلة طويلة من التحوّلات الفنيّة، وعلى الكتابة النقديّة أن تأخذ في حسبانها ذلك كلّه.
“لقد خضع كلّ من النقد الأدبيّ ونظريّة الأدب في القرن العشرين إلى تحوّلات عظمى بتأثير أنظمة مجاورة: مثل اللسانيّات، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، والفلسفة، وعلم الأديان، وعلم التاريخ، والأنثروبولوجيا، وإنّ الحوار الذي يصنع الثقافة ولّد مناهج جديدة، فقضت هذه المناهج على الفكرة القائلة: هناك طريقة وحيدة للكلام على النصوص”، وعلى الناقد عموماً أن يستوعب ذلك كلّه، ليتمكّن من السير قدماً سواء أكان ذلك في قراءة النصوص وحدها، أو في رفد نظريّة الأدب برؤيات جديدة، تفتح آفاقاً أخرى للعلاقة بين الأدب وتفاصيل حياة البشر. هذا ما يحمل فكرة «النقد الوشم» على التلاشي، فليس ثمّة وصمة، أو وشم يبقى مع النصّ إلى الأبد، فيؤكّد حضوره في ثقافة بنية ما، أو يقصيه، كما كان الأمر سابقاً، لاسيّما مع النقد الإديولوجيّ. لا بدّ من التأكيد اليوم على أنّ “للنصّ أكثر من عمر، وعلى القراءة أن تعي ذلك”، هذا يعني أنّه ما من بدّ من إعادة كتابة تاريخ الكتابة الروائيّة، لإنصاف نصوص غبنت في مراحل سابقة، وإزاحة نصوص أخرى تمّ فرضها لغرض ما، تلك النصوص ذاتها التي أساءت للعلاقة بين فنّ الرواية والمتلقّي.
قيمة النقد، وقيمة الفنون
لابدّ، قبل الخوض في مشكلات الناقد العربيّ، من طرح سؤال مركزيّ، يتعلّق بقيمة الفنون بعامّة في هذه المرحلة من تاريخ العرب، وبقيمة فنّ الرواية بخاصّة، يعني ذلك أنّ علينا تفسير علاقة الفنون «الرواية» بكلّ من الفلسفة، وعلم الجمال، وعلم الأخلاق.
يمكن القول إنّ دوام الفنون رهن بدوام الإنسان، لأنّ المجاز سيبقى، مع بقاء انفعالات الإنسان، فالدوافع الأولى التي جعلت الإنسان يتكلّم كانت نابعة من الانفعالات وليس من الحاجات، فإنّ التعبيرات الأولى كانت مجازات، واللغة المجازيّة ولدت أوّلاً، وما زالت مستمرّة، والفنون جميعها ومنها الرواية عبارة عن لغات مجازيّة.
يتمحور سؤال الفلسفة الرئيس أثناء تحويل العالم الماديّ إلى مجرّدات، في «لماذا؟»، في حين تعمل الرواية عموماً على محاولة الإجابة عن «لماذا؟»، لكن عبر تحويل المجرّدات إلى صور فنيّة، تحاكي ذلك العالم، أو تتقاطع معه. ويمكن أن ندرج علاقة الرواية بعلم الجمال في كونها أحد المصادر الهامّة للمفاهيم الجماليّة في هذه المرحلة، بل قد تكون المؤشّر على حضور مفهوم من مثل «الجليل» و»الجميل» و»السامي» و»البطولي» و»المعذّب» وغياب آخر. وندرج علاقة الرواية بعلم الأخلاق، من خلال سؤال آخر محوره: ما الذي يرمي إليه النصّ أو الناصّ من وراء إبراز هذا النموذج، أو ذاك، أو تبئير هذه الفكرة أو هذه العلاقة، أو إبراز هذه القيمة، وتغييب أخرى مضادّة. ولعلّي أرى أنّ مشكلة الناقد العربيّ في هذه المرحلة تبدأ من هذه الأثافيّ الثلاث، وبداية من علاقة الرواية بعلم الأخلاق، وما يترتّب عليها من علاقتها بعلم الجمال، ثمّ علاقتها بالفلسفة، وذلك نظراً لغياب نظريّة فلسفيّة عربيّة، لأنّ الأخيرة لو وجدت، لاختلف ترتيب الأولويّات.
لذا سنجمل مشكلات الناقد العربيّ فيما يأتي:
هلاميّة القيمة البديلة
تمّ الحديث منذ أرسطو، على إمكانيّة حصر الحالة الفنيّة في نصّ ما، في تماسكه، ووحدته، ففكرة التماسك والوحدة، وحتى أصالة العمل الفني هي فكرة قديمة، لكنّ الحالة الفنيّة هذه لا تصنع حالة جماليّة مع تغييب القيمة.
تحضر القيمة بوصفها مفهوماً في الثقافات عموماً، وتحضر بكثافة في الفنون، بل تقوم الفنون على التعبير عن انفعالات ناتجة عن إحباط رغبة ما، أو تضارب رغبات، يخفي وراءه تضارب قيم، إذ يكون الشيء قيّماً، إذا ما أشبع رغبة أو سعى إليها، دون الانغماس في إحباط رغبة مساوية، أو أكثر أهميّة.
لقد قامت التحوّلات الفكريّة الكبرى على موضوعة إزاحة قيمة وفرض قيمة بديلة، إذ جاءت الكلاسيكية مروّجة لقيم مجتمع أرستقراطيّ، وجاءت الرومانتيكيّة مروجة لقيم مجتمع بورجوازيّ، وجاءت الواقعيّة الاشتراكيّة مروّجة لقيم البروليتاريا، ومنذ السقوط السياسيّ للمنظومة الأخيرة، لم تتبلور عربيّاً قيمة بديلة واضحة تشكّل عنواناً عريضاً لرؤية للعالم، في حين يتمّ الترويج لثقافة القطب الواحد، وتقوم الثقافات بمقاومتها، عبر ممارسة خصوصيّاتها سواء أكانت صافية أم هجينة، وذلك عبر كلّ من الإبداع والنقد، كما يفعل الهنود والبنغال بل كما يفعل الفرنسيّون والألمان. وهنا تكمن أزمة الناقد العربيّ في هلاميّة القيمة البديلة، فتجده غادر الشعريّات الكبرى، من كلاسيكيّة ورومانتيكيّة وواقعيّة اشتراكيّة، إلى الشغل التقنيّ في السرديّات، أو الأسلوبيّة، لاسيّما أنّ الاثنين يحاولان جهداً تأصيليّاً، الأوّل في المحكيّات العربيّة، والثاني في البلاغة العربيّة. وكثيراً ما يركّز الناقد العربيّ، في ظلّ هلاميّة القيمة البديلة، في شغله على الشعريّات الصغرى، فيعنى بالمرجعيّة التاريخيّة، والتناصّ، والعلاقة بين الذات والآخر.
يبدو جليّاً أنّ هلاميّة القيمة البديلة، سبب رئيس في اضطراب حضور النموذج الجماليّ للمرحلة، ففي المرحلة الكلاسيكيّة ساد نموذج الجميل، والبطوليّ، وفي مرحلة الرومانتيكيّة ساد نموذج المعذّب والمؤثّر، وفي مرحلة الواقعيّة الاشتراكيّة ساد نموذج الدراميّ، في حين يغيب اليوم النموذج الجماليّ الذي يفرض ذاته بقوّة في كلّ من الإبداع والنقد، وقد يكون الرجوع إلى ما يُعرف بالأخلاق العرفيّة، أو الوصف الأخلاقيّ للجماعات الثقافيّة التي تشكّل مجتمعات النصوص الروائيّة، مخرجاً للناقد الذي لا يمتلك قيمة بديلة.
تعدّد مرجعيّات الناقد العربيّ وتضاربها
تتفرّع هذه المشكلة عن المشكلة الرئيسة، إذ ينتقل الناقد من منهج إلى آخر، بين دراسة وأخرى، وبين مقالة وأخرى، فيكون مرّة مؤدلجاً، ومرّة ليبراليّاً، ومرّة يتبع مناهج نصيّة ويخلص لها، ثمّ يخرج إلى ما هو خارج النصّ في المرّة التي تليها. هذا لا يعني أنّ على الناقد أنّ يخلص لمنهج واحد طوال حياته، بل يطوّر الإنسان رؤيته، وفاقاً لعلاقته التاريخيّة مع ظواهر الطبيعة والواقع، لكنّ ذلك لا يحدث بين مقالة وأخرى، أو في المرحلة الزمنيّة ذاتها، ولا بدّ من أن ندرج أمثلة من مثل رولان بارت الذي كان بنيويّاً وانتهى إلى تفكيكيّ، ومن مثل يمنى العيد، التي بدأت واقعيّة اشتراكيّة، ثمّ صارت بنيويّة، ثمّ اشتغلت في السرديّات. ثمّة من يرى أنّ “الجميل لا يفقد شيئاً من جماله إذا أعيد إنتاجه” وإذا ما أقررنا بأنّ النقد في أحد وجوهه إعادة إنتاج للنصّ، وفاقاً لرؤية ما، فإنّ الجميل قد يفقد جماله عبر تدخّل هذا الناقد، وفرض رؤيته، وقد يستعيد هذا الجمال مع رؤية أخرى وهكذا...
ولعلّ نصوصاً كثيرة أقصاها النقد، وأفقدها جمالها عندما طرح للمتلقّي رؤيته لها، ومنها النقد الإديولوجيّ الذي أقصى مثلاً نصّ «المغمورون» لعبد السلام العجيلي، الذي أثبتت رؤيات أخرى بأنّه من أجمل ما كتب في تاريخ الرواية السوريّة على الأقلّ. يقودنا هذا الكلام إلى مشكلة أخرى تعتري الأداء النقديّ للناقد، نتيجة لتعصّبه لاتجاه فكريّ ما، وهي مشكلة تعنيف النصّ، وتعنيف المبدع من ورائه، هذا يولّد نصّاً نقديّاً عنيفاً، وناقداً عنيفاً أيضاً. ولا بدّ من كشف سرّ من أسرار النقد، وهو أنّك غالباً ما تستطيع أن تقرأ في أيّ نصّ ثيمات جماليّة سلبيّة، وأخرى إيجابيّة، وحينئذ، لا يكون ثمّة رقابة على الناقد سوى رقابة الضمير.
غياب الناقد المفكّر
لعلّ السمة المميّزة لعصر أرسطو صاحب أهمّ المصادر النقديّة العالميّة «فنّ الشعر»، هو أنّ نقّاد الأدب كانوا مفكّرين، وشيئاً فشيئاً انفصل الناقد عن المفكّر، ولعلّ هذا الانفصال مؤشّر على الضحالة، وغياب الحريّة، وشيوع التقليد، والتبعيّة. هذا، لا شكّ، يسيء إلى الأدب، فوجود قوالب فكريّة جاهزة تجعل من العملية النقدية كسرير بروكست، وتقلّص النصّ إلى مجموعة ثيمات موافقة لـ أو مضادّة لـ، ومن ذلك كان النقد الإديولوجيّ.
يقرأ الناقد/المفكّر حركة التاريخ والواقع، ليمنح رؤيا مستقبليّة تتنبّأ بالتوجّهات المستقبليّة لحركة البنية بل البنى الاجتماعيّة، أو لحركة الثقافة، وبناء عليها يلتقط النصوص العبقريّة التي تمتلك الطاقة المعرفيّة - الجماليّة، عدا عن معرفته التقنيّة، وأدواته الحاضرة التي يدخل بها النصّ الروائيّ مثلما يدخل القطعة الموسيقيّة والنصّ السينمائيّ واللوحة التشكيليّة. في حين يُعنى الناقد غير المفكّر بتيّار أو منهج ما يمتلك أدواته، ويقرأ مجموعة من النصوص بناء عليه. ولعل في ذلك إجابة عن سبب عناية نقاد كبار في العصر الحديث مثلاً بروائيين محددين: بلزاك، ودستويفسكي، ورسو، من غير أن يكتبوا عن كل نصّ، أو عن كلّ مبدع يظهر، أو عناية النقد القديم بالمتنبي أو بأصحاب المعلّقات، إذ كان الناقد يتحسّس المبدع الأصيل، الذي لا يخيّب بدوره رؤية الناقد، والأمر ليس تواطؤاً، بل هي الحساسيّة الثقافيّة. يبقى المبدع بحاجة إلى هذا الناقد لأنّه يوسّع أفقه، ويفتّح لديه إمكانيّات جديدة، وحقول جديدة يمكنه الخوض فيها، ويفتّق طاقته عن أدوات فنيّة جديدة.
لا أعتقد أنّ الفكرة في كون النقد كتابة على كتابة، أو كتابة في مواجهة كتابة تنطبق إلاّ على كتابة المفكّر الناقد، لا على دارس النقد، ومؤدّيه، لأنّ الكتابة في الأصل تقييد لفكر ما، لضمان عدم اندثاره، أو تغييره مع القول الشفهيّ، وليست استنساخاً لما هو مكتوب، أي هي تحويل التجريد «الفكر» إلى ما هو أقلّ تجريداً «الحرف»، لذلك تأتي في مقابلة الكتابة التي هي الإبداع، وهي تقييد حالات مفعّلة من قبل الخيال، إلى حالات مقيّدة بالحرف.