هي العالم الذي يتجاوزنا، والكلمة لا تقابل الشيء، مثلما أن الشيء لا يسلّم أمره للكلمة لتكون تمثيلاً له، إنما حيازة دلالية معينة، وضيقة جداً له، الشيء متقدم بما لا يقاس على الكلمة، وهذا ينزع عن كل تفويض قوليٍّ صفة اليقين فيه، هذا ما تأكَّد أكثر مع التطور الهائل للعلوم الإنسانية منذ بداية القرن التاسع عشر، حيث» حصلت الأشياء أولاً على تاريخية خاصة حررتها من ذاك الحيّز المتصل الذي كان يفرض عليها تأريخه...الخ» بتعبير فوكو، أي صار الإنسان ملزماً بمكاشفة الشيء، وليس بإخضاعه له.
الشيء اسم جنس لعام لا يحاط به، إنه الآخر الذي لا يطال حدودياً، الاسم الافتراضي باستمرار، وكل حوار يجري بين شخصين، إنما يحيلهما معاً إلى أي شيء، سوى أن يكون الشيء المشار إليه حقيقة كما يراد لها.
هذا الشيء الذي يشبه ثورة الكون على كائنه، وحتى على الذي سماه من” فوق” بتعابير بشرية، كما هي ثورة الشيء من الداخل على كل بلاغة لغوية، هو الذي يستشرف بنا التنوع في الكائن، ويذهب بنا مذاهب شتى، لها ارتباط وثيق بالمختلف والمتجدد، أي بما هو إبداعي، حيث كل تحول ليس أكثر من مزيد من التعرف إلى الشيء الذي يقصي كل لغة عنه، مهما تأصَّل ثراؤها المعجمي، إنه السير في عالم لا حدودي بامتياز، عالم العلاقة التي لا تثبت بين شيء يفتن أو يغري دون توقف بمغازلته وتوسله لاستقصاء المزيد، عالم « الشيء في ذاته» بالتعبير الكانطي في الحالة التي لا يمكن لأي كان ادعاء امتلاك اللغة، أو التصرف بمعنى ما مهما كان المبرر وجيهاً.
الشيء ملهم العلماء والفلاسفة والمبدعين، مثلما أنه المحوّل بنا نحو المختلف، الشيء الذي يستدعي الجنون من داخل العقل، أكثر مما يتطلب تمثيلاً للعقل في حدود المتداول، إنه الجنون الأدبي في أكثر اعتباراته وجاهة، بقدر ما يمدُّ بمفهومه الخاص به نحو اللاوعي، هذا الذي ينبَذ كثيراً، وهو المحفّز كثيراً على المتجدد في عالمنا، كما يؤكد كل من فيليب سوليرز وفيلمان، في حوارهما حول» الشيء الأدبي: جنونه وسلطته»..
الشيء الذي يظل شيئاً، في حدود المختلف عليه إلى درجة نسيان أن هذا الشيء الذي يُستخَف به، يمتلك قدرات ملحوظة في الانتقام ممن يشيئنه، أي يجرده من القوى الكامنة فيه، كما لو أنه القوة المستباحة، كما هو الممكن البحث في أسبابه ومسبباته، وهذه ترتد نسباً إلى ذات الشيء، هذا الأقدر على توجيه النظر محيطياً للتعريف بما هو فيه وعليه، على أنه أثرى من كل المنسوب إليه، على أنه الوحيد الذي يستمر رغم ضروب التضييق عليه.
إنه الحوار الذي لا يتوقف عند حدود الاسم المعرَّف به، وذلك الغبن الملحق بما اعتبر” نكرةً” حيث القيمة الدالة ومن ثم الرئيسة تكون محتسبة للاسم المعرَّف به وليس لما هو نكرة، وكيف يتأصل فعل النكرة فيما يغفَل عنه.
يمكن الحديث عن اللاشيء إذاً، الحديث عن كل شيء بعدئذ» قبل كل شيء، لا يوجد لاشيء. بعد كل شيء، ماذا يوجد؟»، بصياغة دورمسّون، تلك مقولة معقدة نوعاً ما، لكنها تمس صلب العلاقة بين الذي يحدد اسمه في شيء على أنه شيئه مهما تجلت براعته في الإحاطة به،والذي يلتمس الحقيقة مراراً وتكراراً فيما سمّي له أو سمَّاه، وطلب رأي سواه فيه.
في هذا النطاق المضروب حول الكلمة: الأس، يجري الابتعاد عن المفصل الحركي للكلام، يكون الحوار من نوع آخر، إنه الحوار الذي يتضمن داءه، ما لا يشفى منه، بما أنه يوغل في العدوى، في تأصيل نقيضه واقعاً.
إنه التخوف من الشيء الذي إن أعطي المجال للكشف عن وجوهه الألف، لما كان هناك إمكان لهذا الاستمرار في المزيد من غلبة الاسم على المسمى، من الكيدية للشيء، من التصرف بالكلمة من موقع الندية أحياناً كثيرة، وليس من موقع النظر في قوى الذات وقوى الآخر، ومكاشفة المسافة الفاصلة، لتعيين الحوار الأكثر نجاعة بالتالي.
إن البحث في نسَب الحوار، يُظهر تاريخياً ما هو مأسوي باضطراد، ما يضع أياَ كان غالباً في مواجهة الآخر، بدعوى المماثلة وليس حساب المتحصَّل معرفياً لدى الآخر، مع مراعاة حقيقة تصرف المقتدر، وما ينطوي عليه شخصه المعرفي من يقين يبقيه المعني بالشيء عبر اسمه الذي أبقاه عائداً إليه، مرجعه، ما ينطوي عليه هذا المشهد الحواري، وإن أردت، فاللاحواري المعتاد انطلاقاً من عنف المردود، فيما يُختلَف عليه، رغم الاعتراف الضمنيّ والعلني، على أن المنطوق لا يمثّل الحقيقة التي يَجهر بها أحدهم، وطابع الفوضى الدرامية في ذلك.
هل نحن في حرب الذات على الذات، في حُمَّى حرب الحقيقة المتداولة على الحقيقة المتنحَّاة، حرب الحوار الذي يتدعم بأخلاقية رادعة للمختلف، في مواجهة حوار يعرَّف به مسلحاً، غريباً، مشبوهاً، من خلال حمولته المعرفية المثيرة للتساؤلات، الحوار الذي يمارس تلغيماً للخطاب الذي لا يكون متناغماً مع المأمول منه من زاوية واحدة؟
ربما بدت، أو تكون الحالة هكذا، ربما كان الحوار في طبيعته افتئاتياً، الحوار الذي يقارب محتوى الخطاب هذا الذي ينقصه كمال الاسم دائماً، رغم الإطناب في الحديث عما سماه فوكو ثانية، بإرادة الحقيقة ذات الصلة الوثيقة بمفهوم الخطاب المركَّب طبعاً «ومع ذلك فإرادة الحقيقة هي الشيء الذي قلما يُتحدَّث عنه. كما لو أن إرادة الحقيقة وتعرجاتها بالنسبة لنا محجوبة من طرف الحقيقة نفسها خلال مسارها الضروري».
إنه ذاتُ الحوار الذي يقوم به أحدهم في معرض الكلام، أو وهو يكتب، وهو يسمّي تنوعه للعالم، وإلا لما كان لما يقوله أو يسطّره أي قيمة استقطابية. إن حيوية قول، أو كتابة ما، تبرز في عمق الحوار الذي يغذي تعدده قيمياً!
لكن أي نوع من الكلام يتصدر الحوار، أي حوار يكون هذا الذي يقيم علاقة بين شخصين على الأقل، ولو في سياق المونولوج، إذا كان الكلام في أصله حواراً دون تحديد اسمي لمتحاورَين، إذا كان الحوار تسمية معلنة أو صريحة لطرفين، وثمة مسافة بينهما تحفظ حقاً ما لكل منهما، ليقول كلاماً، ليقول بعضاً مما يعنيه قبل كل شيء؟
ثمة تشابك رموز، تمرير مؤثرات تعني كل محاور للآخر، تعلي من شأنه، ولو من باب الإيهام الذاتي، حيث إن الحوار يتخذ صبغة مواجهة تعريف بالذات تستغرق وقتاً كافياً، ليشعر كل طرف أنه في موقع المجابهة، أن الذي يُتطلَّب منه هو أن يقول ويقول، أن يعلِم المقابل أن ما لديه عصي على النفاذ، أو أبعد ما يكون عن الندية واقعاً، أن الشيء الذي يعنيه هو شيئه الخاص به، وهذا الشيء نفسه لا يؤخَذ به على وجوهه، فالشيء تحاوري بعمق!
الحوار يحيلنا إلى الحيرة السافرة، إلى الحيلة، من خلال فعل التحوير، وليس الوضوح أو الشفافية، حيث إن طائفة المفردات التي تخص المعرَّف به داخل الحوار «على مائدته المعتبَرة»، لا تقرّب بين المتحاورين، وكأن الذي بينهما يمثل خصومة ما، عداء، بما أن المحاور يبتغي، كما هو متصور عنده، الإيحاء للمتحاور أن ثمة ما يحرجه بالفعل، أن ما لديه يلفت الأنظار إليه من خلال ثغرات مفترضة قائمة فيما أنجزه، وأن الآخر يحاول الرد، ليس لأنه يقوم بعملية توضيح، إذ لا شرح صفياً في العلاقة الحوارية المميزة بالتوتر أصلاً، إنما بما يجعل الآخر على نوعية اقتناع بمصداقية ما أنجزه أو قام به، أن صوته المباشر يمثل فعل صواب لما هو مميَّز باسمه تماماً.
أكثر من ذلك، يظهر الكلام واقعاً حوارياً على كل حال، إنه حيرة المرء في ذاته، إمكان تردده الدائم بين ما يريد وما لا يريد، من حيث أنه المحاور والمتحاور، من حيث أنه المسكون بأصوات حوار تعنيه في الصميم، الحوار الذي يستشرف به ما لا يريد للآخرين أن يطَّلعوا عليه، أو يعلموا به، لأن ثمة عقوداً متسلسلة ومتراكمة، بقدر ما تكون متجددة ومستحدثة، تقوم بينه وبين نفسه، عقود حوارات لا تنقطع وإن تنكَّر لها، وهذا يستدعي العودة إلى الشيء، على أن الذي سمَّيناه يخصنا كثيراً وليس الشيء ذاته، ولتستمر البلبلة باسم الشيء، بعيداً عنه!