من هنا لا يمكن النظر إلى الموهبة كعصفور تحدّثه نفسه بالانتقال من غصن إلى آخر انتقالاً عشوائياً، وإلاّ نكون حكمنا على المنطق بالنفي الطوعيّ أو الإجباريّ، ونحن نريد أن نسير على هديه، لذلك نقول لا بأس من تشبيه الموهبة بعصفور يعرف لماذا ينتقل من هذا الغصن إلى ذاك، وليس القصد من هذا الانتقال القيام بعملية استعراضية ، وليس الانتقال فعلاً لا إرادياً لا يحوي هدفاً واضحاً، بل هو فعل له أسبابه وموجباته وغاياته الواضحة المحددة.
لذلك كنّا نرفض الرأي القائل بهبوط الموهبة فجأة على أغصان العقل الموجود في رأس ذلك الشخص الذي أصبح فجأة وبقدرة قادر علماً من أعلام الفكر والثقافة، بعد أن ظلّ زماناً طويلاً قانعاً بالعيش في كهوف الانكفاء على الذات والابتعاد عن عالم الأضواء.
الموهبة قطرات تسبقها غيوم هي حصيلة القراءة العميقة المتأنية، والتزوّد بزاد فكريّ محكم البنيان، بعد ذلك تصبح الفرصة مهيأة لانثيال تلك القطرات التي تحرّض أغصان الإبداع، فتهتزّ هذه الأغصان اهتزازات رفيقة أو رقيقة، وينجم عن ذلك الفعل ولادة مروج مشبعة بقطرات الإبداع، سرعان ما تحمل قيثارتها وتدغدغها بأجمل الأنغام معلنة ولادة الربيع الخصيب الغنيّ مروجاً وأزهاراً وأطياراً.
ونعود مرّة أخرى لنصرّ على القول: إنّ تفسير الموهبة تفسيراً سطحياً يأخذ بنظرية المصادفة البحتة لا يعدو كونه خلطاً تائهاً للأوراق، يظلّ قاصراً لأنّه يبخس الموهبة حقّها، ولا يتعامل مع الإبداع بمنطق العقل المحاكم الذي يتبع مسار الإبداع من المنبع إلى المصبّ.
الموهبة بذرة تنمو في ذلك الوسط المهيّـِأ لنموّها وترعرعها، تُسقى بماء القدرة على اختراق المألوف وصولاً إلى لحظة ابتكار مقاييس جديدة ينجح المبدع إذا التزم بها في حياكة ثوب بديع يلفّ به جسد الإبداع فإذا به يشبّ عن الطوق بستان فتنة وجمال.
وهذه البذرة تكون شديدة التأثر بالوسط المحيط بها، ناهيك عن استجابتها اللاشعورية لأوامر ونواهي الوسط الذي تنمو في جوّه الصحيّ العاطر بكلّ ما يتيح المجال لأكمام الموهبة لتتفتّح في أبهى حلّة.
وأرجو ألاّ يفهم القارئ الحصيف من كلامنا أننا ندعو للتمسّك بالأسماء المعروفة في دنيا الثقافة والأدب، مطالبين بقطع الطريق على كلّ موهبة جديدة، بل على العكس تماماً، لأننا نؤمن أنّ الروض يزداد جمالاً وفتنة عندما تنضمّ إليه ورود جديدة، لكلّ وردة منها لونها الجذاب وعبقها الأخّاذ.
ما نتمنّى أن يفهمه القارئ هو إعطاء الموهبة حقها، والتفرّغ لرعايتها وحضنها بالطريق الصحيح، وهذا الطريق يقوم على جعل القراءة عادة متأصلة لا يمكن الاستغناء عنها، ومتابعة ما ينتجه العقل البشريّ من ضروب الإبداع، واستيعاب نتاج العقول المبدعة، للخروج بعصير فكريّ مبدع يستطيع صاحبه أن ينسبه إلى عقله بكلّ ثقة بالنفس.
وأقسى ما نواجهه اليوم في صفحات المجلات والصحف مقالات تشير إلى أنّ مستنسخها لا يتقن إلاّ القيام بعملية واحدة تنحصر في ( القصّ) و ( اللصق)، يفعل فعلته ويطلب منّا قبول طلبه بالانتساب إلى اتحاد المبدعين العرب، ويغضب كثيراً عندما يجاب طلبه بالرفض القاطع، وليكنْ على يقين أننا لن نعيد النظر في قرارنا.