تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الليلة البيضاء

ملحق ثقافي
الثلاثاء 3 /1/2006
أحمــــــــــــد ناصر

منذ الساعة الثامنة مساء أسلم زمام نفسه لليلة البيضاء- كان يمشي، يتحدث... وحواسه كلها أسيرة لديها.

- مالك، أيها السيد، تبدو كالمسرنم!- قالت له ناتاشا موسعة عينيها الخضراوين الشبيهتين بعيني قطة منزلية أليفة. - معك حق، إنني لكذلك!‏

فأنت لم تؤخذي، مثلي، بالتدرج اللوني العجيب، وكأن الشمس شمعة تخبو لكنها تستعصي على الانطفاء التام. كانت مدينة لينينغراد تمور وتئز، مع أن الساعة جاوزت الثانية عشرة ليلاً، كأسراب من النحل أضاعت مواقع خلياتها. - وصف شاعر من شعرائنا القدامى ليلة نجمية بقوله ليلتي هذه عروس من الزنج عليها قلائد من جمان لعل ترجمتي لهذا البيت من الشعر أفقدته الكثير من بهائه.. فقاطعته ناتاشا بحماس: - بل إنها صورة بهية، لا شك أنك أحسنت الترجمة، ما دمت قد أدركت جمالية الصورة. - أظن لو أن شاعرنا يصف ليلتنا هذه الآن، لقال: ليلتي هذي عروس من الألق.. -إلى هذا الحد معجب أنت بالليلة البيضاء؟ - أجل، منذ أكثر من شهر وأنا أتهيأ للقائها، واحتفاء بها قرأت رواية«الليالي البيضاء» لـ دوستويفسكي». لا شك قرأتها أنت. ولا أدري إن كنت قد أصبت ، مثلي، بخيبة الأمل. أما أنا فقد فاجأتني تماماً: كنت أحسبها رواية مفرحة تتحدث، لا بد، عن ليلة بيضاء بهيجة.. دراما حقيقية! -أجل، أصيب! إنها دراما. اسمع يا عزيزي، أراك تشبه«الحلم» بطلها! - أشبهه؟ بماذا؟ -كلاكما حالم، لكن، لا أدري إن كنت مهزوماً، محبطاً مثله. ما هذه الرومانسية الفائضة؟ تدعوني في بداية مشوارنا في التاسعة ليلاً لزيارة النصب التذكاري للشاعر بوشكين ثم تحدثني عن الليالي البيضاء دوستويفسكي وعن الألق... - إذاً،أنت ترين في سلوكي هذا مظهراً من مظاهر الإحباط؟ -قلت لك أنك رومانسي مثله، ولم أؤكد أنك محبط أيضاً. فأنا لا أعرفك بعد. -لا أدري إن كانت الرومانسية نقصة، لكنني أعترف لك بأنني رومانسي بامتياز. -لا، لا. قليل من الرومانسية يزين الحياة والإنسان. لكن يفترض أن تكون بحدود مقبولة. - ليكن في علمك أن أحب أغنية روسية إلى قلبي «رائحة التايغا». «الناس يجرون وراء المال الناس يجرون وراء الجاه أما أنا فأجري وراء الضباب وراء الأحلام وراء رائحة التايغا..» رددها منغماً، فابتسمت، وتابع يقول: - أرى ألق «الليلة البيضاء» وألق عينيك من كنوز الأرض! - اكنز، أيها الملياردير، اكنز!!- قالتها ناتاشا وهي تهتز من الضحك، بحيث اندفع يضحك معها تلقائياً وبشكل هسترياني. كانت، ثمة، غلالة رمادية شفيفة تلف كل شيء كأن أفواجاً من الجن تنفث دخاناً سحرياً بهيجاً، أو كأن الطبيعة حسناء مغناج ترفض بعناد ارتداء خمارها الأسود. فيما كان رواد الحديقة الصيفية يتحادثون، يتهامسون بحميمية خاصة ناسين أو متناسين همومهم وخلافاتهم الشخصية. - حسن، هل تعلم أن مدينة بطرسبورغ تشكل خلفية دائمة لكل رواياته؟ -لم أفكر بشيء من هذا. - هناك، إذا، أنا أدعوك للتفكير، خذ مثلاً رواية« الليالي البيضاء» التي قرأتها أنت حديثاً- مشاعر جياشة ملتهبة على خلفية كامدة لبطر سبورغ الجميلة الباردة برودة الأموات. - أنا مجرد هاوٍ للأدب، أقرأ فأنتشي. قصيدة أو قصة ترفعني إلى السماء السابعة. أما لماذا طلبت منك مرافقتي ليلاً إلى النصب التذكاري حيث أسكن، في شارع سميرنوفا، قريب جداً من ذلك النصب، وقد أدمنت زيارته معتبراً قربي منه مكسباً قدرياً شخصياً لي، كما أنني رأيت أن جلالة الليلة البيضاء تتناغم مع زيارة الشاعر العظيم.. كفاك.. جعلتني أفكر دون شعور مني أن فيك ما يشبه بوشكين. - طبعاً تقصدين ملامحي الشرقية التي تتلاقى بدرجة ما بملامحه.. - أجل، لكن اسمع، أنا لا أريد بهذا إطراء عليك، أيها الحالم المسكين! تذكر أنه كان يرى الروس، إبان وصوله إلى الاتحاد السوفييتي، متشابهين، مما سبب له هذا، ذات مرة، ارتباكاً لن ينساه.. دعاها إلى المقهى المجاور لتناول وجبة عشاء خفيفة. كانت نفسه مفعمة برضى وفرح مبهمين فانشرح كل ما فيه وما حوله، ورأى فيضا من الألق على الوجوه، كأن في كل منها مشكاة تنيره. خرجا من المقهى قاصدين« مارسفوي بولي» اجتازه عائدين إلى «الحديقة الصيفية» كان على المقعد، حيث كانا يجلسان منذ ساعة خلت، شاب وفتاة يتعانقان، فجلسا على المقعد المجاور صامتين. هامت عيناه بين ألق الطبيعة المسيطر وألق حسناته العبق وبين القبل الحميمة التي كان يجود بها الجاران، كل إلى الآخر.. ووجد نفسه، في حميّا طاغية، يلف« ناتاشا» بذراعه الأيمن وخصرها بالأيسر، ثم يدفن رأسه في شلال شعرها الأصهب الناعم ا لمنساب على أطراف المقعد وراح يبحث بهيام. عن شفتيها. -استوب ، استوب! هتف ناتاشا بامتعاض- بالأمس تعرفت عليّ وها أنت تهجم كالذئب! أيها الشرقي الحالم، لا تقترب من ثمرة قبل أن تنضج.. وإلا لن ترى وجهي مطلقاً! انكفأ «الحالم»إلى نفسه مغمضاً عينيه، غاب الألق للحظات.. نهضت ناتاشا غضبي ومشت دون أن تلتفت وراءها. كانت الساعة تقارب الثانية من بعد منتصف الليل، والغلالة الرمادية بدأت تتحول تدريجياً إلى اللون الأصهب، ومع تدرج اللون هذا راحت أفواج الناس تنساب بأرتال شبه منتظمة عائدة إلى بيوتها، فالفجر بدأ يعلن رويدا- رويدا عن نفسه. وسرعان مالحق «الحالم» بها. مشى بجانبها مايقارب الخمس دقائق دون أن ينبس بأية كلمة. كانا قد تجاوزا معهد الثقافة، حيث يتلقى تعليمه، وأخذا الجانب الأيمن من جسر كيروفسكي. وفي الجهة الشمالية من الجسر، على ضفة «النيفا» الشرقية كانت تربض بمهابة وشموخ قلعة «بتروبافلوفسكايا». -ناتاشا! اعتذر... أرجو ألا تحرميني من رؤية « ألق» وجهك! أدار وجهها إليه، فقرأ هدوءاً في عينيها الخضراوين واطمأن:«اختفت مخالب القطة»! - حسن، أيها الشرقي الحالم، قد سامحتك ما دمت قد أبديت أسفك الصادق!- تأبطت ذراعه ومضيا عائدين أدراجهما عبر رداء الليلة البيضاء..‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية