تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


الليـــــلة الأخـيـــــرة

ملحق ثقافي
الثلاثاء 3 /1/2006
نزيــــــه بـــــدور

-1- على غيرِ عادَتِهِ انطلق سامرُ مسرعاً بسيارته باتجاهِ دمشقَ وقد بدأتِ العتمةُ تنشر بعض أخيلتها على السهولِ المتراميةِ الأطراف.

كان متلهفاً للوصولِ إلى مقصدِهِ بسرعةٍ, فهو على موعدٍ معَ تلكَ المسرّاتِ النادرة. إنه على موعدٍ معَ متعةِ السهرِ في أحدِ مطاعمِ مدينةِ دمشقَ القديمةِ وبرفقةِ صديقِهِ الغالي نبهان ومن يُصادِفُ وجودُهُ من المثقفين والفنانين. رحّبَ به نبهان: حسناً فعلتَ يا سامرُ بحضورِكَ اليومَ. هذه الليلةَ دعوتُ للعشاءِ صديقي الدكتورَ بسامَ المديرَ العامَّ لشركةِ “ألفاذبيتا” للمقاولات وسيرافقُهُ معاونُه واثنان من كبارِ رجالِ الأعمال.‏

ستكون ليلةًً من الليالي المشهودة. أشرقَ وجهُ سامرَ بالموافقةِ. هو يفضّلُ رفقةَ الصُّحفيينَ والأدباءِ على رفقةِ التجارِ والمقاولين، لكنه كان يسعى للتعرفِ على بسامَ منذ فترةٍ، وها قد سنحتِ الفرصةُ التي لا تفوّت. تعملُ زوجةُ سامرَ ذاتُ الثلاثين عاماً، مهندسةًًً معماريةً في تلكَ الشركةِ ولبسامَ فضلٌ كبيرٌ عليها, فقد أعادها إلى العملِ بعدَ أن أقالها المديرُ السابق. وردّ لها اعتبارَها بين زملائِها بتسميتِها مستشارةً فنيةً لفرعِ الشركةِ في حمصَ، براتب sمميزٍ وسيارةٍ سياحيةٍ حديثةٍ. ناهيك أنَّ ذلك المنصب لا يتطلبُ جهداً يومياً جديراً بالذكرِ وليسَ أكثرَ من حضورِ اجتماعاتٍ دوريةٍ في مقرِّ الإدارةِ العامةِ في دمشقَ مرةً أو مرتين في الشهرِ لمناقشةِ كافةِ قضايا ومستجداتِ العمل. وهكذا صارتِ الزوجةُ المهندسةُ تقومُ بزياراتٍ متواترةٍ للعاصمةِ. تسافرُ في الصباحِ الباكرِ برفقةِ سائِقِها العجوزِ الطيبِ، وتعودُ في وقتٍ ما من المساءِ لتجدَ زوجَها بانتظارِها ولتعانِقَ طفليها وتَبُثَّهُمْ جميعاً شوقَها وتحدّثَََهُمْ عن بعضِ أحداثِ يومٍ طويلٍ شاق. -2- كان نبهانُ يتحدثُ بحماسٍ ودونَ انقطاعٍ عن شخصيةِ بسامَ الفذّةِ, لمْ يسمحْ لسامرَ بالتفوهِ ببنتِ شفةٍ. أرادَ هذا الأخيرُ إعلامَه أنَّ زوجتَه تعملُ في شركةِ بسامَ دونَ جدوى, وربّما أخبرَهُ بذلك، لكن نبهانَ لم يستمِعْ إليهِ ولمْ يُعِرْهُ انتباهاً. تابعَ نبهانُ سمفونيةَ المديحِ: إنه ذكيٌ وناجحٌ، وفوقَ ذلكَ هو وسيمٌ ومحبوبٌ من النساءِ, معَ أنّهُ تجاوزَ الخامسةَ والخمسينَ منْ عمرِهِ. صحيحٌ أنه صارَ في الآونةِ الأخيرةِ أكثرَ بدانةًًً بما لا يتناسبُ معَ قِصرِ قامتِه, لكنّه مازالَ يحتفظُ بجاذبيتِهِ وسحرِهِ, فهو أشقرُ الشعرِ متوردُ الخدينِ يشعُّ من عينيهِ بريقٌ خاص. قالَ سامرُ: أحمُلُ في سيّارتي زجاجةَ ويسكي فاخرةً, سأقدمُها هديةًً لهُ. أجابَهُ نبهانُ مبتسماً: ماذا تظنُّ نفسَك فاعِلاً؟ لو فتحتَ سيارتَه لشاهدْتَ أفضلَ أنواعِ الويسكي الاسكوتلانديةِ المعتقةِ والسيجارِ الكوبيِّ الفاخرِ. إنَّ لهُ أصدقاءً كثيرين, وماذا يمكنْ أن يقدموا له من الهدايا غيرَ تلك. -3- بدأت ليلةُ سامرَ الأخيرةُ في العاشرةِ والنصفِ مساءً بعدَ أنْ حضرَ متأخراً الضيفُ المهمُّ بسامُ وشغلَ آخرَ كرسيٍّ فارغٍ خلفَ طاولةٍ مستديرةٍ. بعد تعارفٍ مقتضبٍ و جافٍ بدأتِ الحفلةُ. قال نبهان : أقدم لكم صديقي سامر، هو طفل في الخمسين من عمره، مهندس متورط في ارتكاب الشعر و يقترف أحيانا كتابة القصة. وزع النادل الأنيق بعض المقبلات في الأطباق الخزفية البيضاء. أُترعت الكؤوس بالويسكي والمكعبات الثلجية الشفافة, وتصادمت محدثةً رنيناً موسيقياً ومعلنة النخب الأول. اتفق الجميع أن نشوة الشراب ناقصة بدونِ رفقةِ النساءِ. معاقرةُ الخمرةِ بهذهِ الحالةِ بدونِ طعمٍ. انتصبَ بسامُ قليلاً ليقذِفَ بعباراتِهِ الأولى: الحياةُ قصيدةٌ حلوةٌ مضمونُها وغايتُها المرأة. المرأةُ الجميلةُ تشبهُ القصيدةَ. أُعلنُ لكم أنني أؤمنُ بالآلهةِ الأنثى ولتقولوا عني ما تشاؤون. هلّل معاونُه مؤيداً ودعا إلى كأس أخرى: فلنشرب هذه المرة نخب الرجال العاشقين المتيمين. فلنشرب نخبنا! أُحضرتْ أطباقُ السمكِ الشهيِّ المضمّخِ بالتوابلِ. اعترضَ البعضُ:نريد من السمكِ ما هو أهم. نريدُ الكافيارَ.أجابَ النادلُ بدماثة فائقة: -الكافيار غير متوفر الآن ربما يكون جاهزاً بعدَ نصفِ ساعةٍ. - لاحاجةَ للكافيارِ فنحنُ عائدون إلى بيوتِنا اليوم، وعبَثا سنَحقِنُ قلوبَنا بطاقةِ الكافيار. ثم سُكِبتِ الكأسُ الثالثةُ والرابعةُ.... وهكذا ارتفعتِ حرارةُ الهواءِ وعبَقَ الدخانُ ودارتِ الخمرةُ بالرؤوسِ. صارَ الرجالُ أكثرَ مرحاً وأكثرَ تحرراً منَ الرسميات. بدأ كلُّ واحدٍ منْهُم يتحدثُ عنْ غزواتِه العاطفيةِ. صاروا أكثر جرأة في ذكر أسماء من يدّعون أنهن عشيقاتهم. -4- فجأةً قال أحدُ الحضور: أنا أحسِدُ الدكتورَ بسام على صديقته الحمصية, رولانا. إنها آيةٌ في الجمالِ, إنها فينوس, حقاً تشبه القصيدة. وقع الخطابُ الأخيرُ على مسامعِ سامرَ وقْعَ الصاعقةِ, فدارتِ الدنيا به. أُسدلت غشاوةٌ على عينيه. لمْ ينتبه أحدٌ لوضْعِه، فالأنظارُ مشدودةٌ إلى بسام، بانتظارِ المزيدِ من التفاصيلِ حولَ الأنثى موضوعِ اللحظةِ “رولانا”. استجمعَ سامرُ بعضَ قواه، ونظرَ إلى معاونِ المديرِ مستفسراً بإلحاح، فأجابه بإيماءة من رأسه أنْ هذا صحيحٌ ومعلومٌ لجميعِ المقربين. حوّل سامرُ نظرَهُ إلى الدكتور وتوسَّل إليهِ بصمتٍ : قلْ شيئاً أرجوك, قلْ إنَّ هذا غيرُ صحيحٍ وإِنَّ علاقتَك برولانا علاقةٌ أبويةٌ, علاقةُ الأستاذِ بتلميذتِه, أتوسَّلُ إليك, قلْ أيَّ شيءٍ ولكنْ أرجوك لا تقل إنها خليلتُك. التقت عينا الرجلين, لم تصل الرسالةُ الصامتةٌ. لم يقلْ بسامُ شيئاً. لم يؤكِّدْ. لم ينْفِ, بل نفخ صدرَه بغرورٍ ونفضَ سيجارَهُ الكبيرَ طالباً تغييرَ الموضوعِ... -5- ازدادَ سامرُ وهناً فانزلقَ قليلاً في كرسيِّه وتقوَّسَ جسدُه فصارَ كعلامةِ استفهامٍ. وأمسى كلُّ شيءٍ حولَهُ يشبهُ علاماتِ الاستفهامِ. نظرَ إليه نبهان فوجدَه شاحبَ اللونِ، يتصببُ عرقاً, فقال: لابدَّ أنك أكثرت من الشرابِ, كيف ستقودُ سيارتَك؟. كانَ الضحكُ والهرجُ متواصلاً انقبضَ قلبُه فصارَ كحبَّةِ زيتونِ سوداء: كمْ امرأةٍ في تلكَ الشركة تحمُلُ اسمَ “رولانا”؟. بل كم “رولانا” في حمصَ؟ في سوريا؟. إنهنَّ معدودات. يا إلهي لعلها امرأةٌ أخرى. قد يكونُ ذلك مجردَ افتراءٍ. اعتدنا على هذه المفاخرات. لكن لماذا “رولانا” بالذات؟. -6- أقفلت سيارتُه عائدةً إلى حمصَ وهي تلتهمُ الكيلومترات المتلاحقة من الطريقِ الفارغةِ ليلاً بسرعةٍ جنونيةٍ. تسير كأنها تعرفُ الطريقَ ولاحاجةَ لقيادتِها. كان سامرُ، المتكوُِّمُ خلفَ المقود متشبثاً به، يفكر دون انقطاعٍ بما سمع عن زوجتِه رولانا. بدأ يتذكر بعضَ المواقفِ والأحداثِ في الشهورِ الأخيرةِ ويعيد قراءتَها: عندما تكونُ في العاصمةِ, وفي فترةِ الظهيرةِ غالبا ما يكونُ هاتفُها المحمولُ خارجَ التغطيةِ, يا إلهي كم كنت مغفلاً! هذا وقتٌ ميّتٌ، لا اجتماعاتْ ولا أعمالْ, لابد أنها كانت تُغلقُ الهاتفَ وهي في أحضانه. معقول؟. غير معقول!. لقد أحببتها ومنحتها كل شيء. ثم ماذا ينقُصُها؟. يحِكُّ ذقنَه, ثم يعودُ ليقبِضَ على مقوَدَ السيارةِ بقوةٍ ويتذكر: الآن فهمتُ, بعدَ كلِّ رحلةٍ كانت تبدو سعيدةً وتخلو بنفسها في غرفةِ النومِ لإجراءِ اتصالٍ هاتفيٍ طويلٍ. تستمع طويلاً وتتكلم قليلا وتطلقُ الضحكاتِ القصيرةِ أكثرَ من تفوِّهِها بالكلماتِ!. كلُّ ذلك لم يلفتْ نظري. مستحيل أنا أعرفُها....!. بل كل شيء ممكن. -7- مزق صريرُ البابِ الصمتَ العميقَ السائدَ في ذلكَ الوقتِ منَ الليلِ، وهو يلجُ إلى شقّتِهِ. انعكست صورتُه في المرآةِ الكبيرةِ المثبتةِ قربَ البابِ. توقّفَ أمامَها. وجدَ نفسَه قبيحاً غبياً مترهلاً. دلفَ إلى غرفة المعيشة. شغّل التلفاز, لكنه لم ينظرْ إليه، ثم اقتربَ من الخزانةِ وتناول كأساً إضافياً من الويسكي وأفرغها في جوفه دفعة واحدة. وجد لها طعماً غريباً لم يستطع تحديدَه. أسند رأسَه المفعم بالكحولِ إلى طرفِ الأريكةِ وبدأ يسبحُ في حالةٍ من انعدامِ الوزن. حصلَ على غفوةٍ قصيرةٍ, لكنه لم يبتعدْ عن الموضوعِ كثيراً, لقد رأى في نومِه زوجتَه تدخُلُ مكتباً كبيراً, وتركضُ لترميَ نفْسَها كطفلةٍ مدللةٍ وبسعادةٍ غامرةٍ على ركبتي رجلٍ بدينٍ قصيرِ اليدين يجلس على كرسيٍ كبيرٍ بشكلٍ خرافي, وقد أخذت تقبلُ رقبتَه العريضةَ وصولاً إلى فمِه, بينما راحت أصابعُه تعبَثُ بأزرارِ قميصِها وتضغطُ نهديها. وخلالَ ومضةٍ من الزمنِ شاهدهما يمارسان الحب. أراد سامر أن يتقدم منهما ويوقف المشهد فلم تستجب أعضاؤه لأوامرِ الحركة. صرخ قائلاً : هذا لايجوز هناك خطأ ما. فلم يخرج صوته من حنجرته. كان يعرف أنه في حلم, وأن هذا غيرُ واقعي. حاول أن يستيقظ ويعود إلى الواقع فتعذر عليه ذلك. أخيراً استطاع طرد الكابوس, استيقظ وعاد إلى رشده وقد جف حلقُُه. خرج إلى المطبخ وتناول كأسَ ماءٍ. عرج على غرفة النوم. كانت رولانا نائمةً بين طفليها في هدوءٍ وطمأنينة. رنا إليها فوجدَها جميلةً أكثر من أي وقت مضى. تذكر العبارةَ التي قيلت بحقِّها: إنها أشبهُ بقصيدة. لثم خدَّ ابنِه البكر ثم تحوّل إلى خدِّ ابنتِه ليقبلَها ففاحت رائحةُ الخمر في السرير. فتحت الزوجةُ عينيها وقالت بصوتٍ مبحوحٍ وناعسٍ: لم أشعرْ بك حين رجعتَ ياحبيبي!. الحمد لله على السلامة. تثاءبت وعادت لتغط في نوم لذيذ. حول نظره إلى النافذة ليشاهد انبلاج الفجر لآخر مرة.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية