محمد الماغوط .. البدوي الأحمر
ملحق ثقافي 18/4/2006 ســـــناء زعيــــــــر كما يضحك.. يكتب وكما يبكي.. يكتب وكما يسعل ويقاوم ويستسلم ويهاجر، ويعود ليكتب. وعندما يناله التعب والجوع والعطش، يغمس كأسه أو ملعقته أو قلمه بمياه بردى،
حيث كل قصائد العالم ودموعه انتصاراته وهزائمه وأحلامه سفينة غارقة حتى اشرعتها وصواريها العليا بالأحلام والذكريات. لذلك هي لم تبحر منذ سنوات، فيتذكر كما يتذكر الطائر البعيد عشه، والصياد كوخه، والسجين، الأفق اللامتناهي خلف القضبان، وينطلق كأنه جواد لهذه الأمة العجوز دون أن يكون له من معيل سوى صهيلة وسعاله. هكذا هو محمد الماغوط في جديده الأخير /البدوي الأحمر/ هذا البدوي ذو العباءة الطائرة والوشم المسحور، هذا البدوي هو ذاته محمد الماغوط، الراعي الذي أعلن العصيان على القبائل الجاهلية في السلمية ودمشق وبيروت كما قال عنه بندر عبد الحميد، بدوي متفائل بالكوارث متنبىء بسنوات الجراد، وأظن أنه متحالف مع الشيطان منذ القرون الوسطى، ففي السلمية وفي بيروت وطروادة وجرش كان سهاده طويلاً، وبمقطع واحد مما كتب بتلك اليد الموشومة على ركبتيه عند الفجر أبكى الملايين من الحقول والغيوم والمارة والآلات الكاتبة بين الحوافر.بعضوية لغتها الثقافة العامة الواسعة كان إبداعه النثري وكان تغلغله البسيط إلى المشهد الواقعي عميقاً رغم كل ذلك لأن لوحته مقروءة مفهومة، ولعل ذلك هو جوهر الإبداع عنده.. في مقطوعة - عقبات المجد- يقول: لا أترك همومي تتراكم كمادة أرشيفية لهذا وذاك بل أوليها اهتماماً خاصاً لتتحول إلى حزن منتج له عضلات كملاكم وأشرعة كسفينة ومواسم كبستان مع أحقاد واضحة كأحقاد الصراع الطبقي ومع ما استهلكه من دقات القلب أصبح بيتاً طريد العدالة هذا البدوي العجيب رحل الآن؟تعب الآن ؟أم ضجر؟ لا نعرف! لكن الأكيد أنه كان الشاعر الأكثر احتراماً لأحلامه وابداعاته بل لكل شيء. ففي شعره لب الحقيقة وفي شعره تدرك أن للورود البرية ليس شيئاً من السحر وحسب، بل والاحتيال أيضاً. وتدرك أن ما يغطي ورودنا المنزلية ليس ندى الصباح بل هو الشوق الى البراري الأولى.. إنه الشاعر الذي لا يطيق الحياد، الشاعر المتمرد على كل شيء، إن أحداً لا يعرف كيف وصل الى دم اللغة وهو الذي لم يقتنع يوماً بقراءة كتاب، ترى هل كان اغترابه الاجتماعي والنفسي في هذا الوطن إلا الكأس الذي يشربه والهواء الذي يتنفسه، رغم مئات البرلمانات ومجالس الشعر العربية، أم لأن المهاجر لا يرى من هذا الوطن أكثر مما تراه النعامة في الرمال.. في مقطوعته/مبادرة/يقول: تعرفت على وطني.. وأنا أطالع صحفي اليومية في أحد مقاهي الرصيف فوجدته معقولاً بموقعه وأرصفته وغيومه وطيوره وأشجاره وفصوله وأهازيجه وأساطيره فقررّت له ما يكفيه من الحزن والفرح والجنس والضجر والتثاؤب ولتسطع أرصفته وبعد نجومه كان لا يصلح إلا للخدمات العامة. وقد قررت القيام بها نيابة عنه لأنني ما زلت في مقتبل العمر.. هذا لبدوي الذي رحل الآن. عاش سنواته الآخيرة في لقب لن يدركه إلا المقربون منه، لقد كانت أيامه خاوية من أي معنى، ولياليه طويلة لا تفصح عن شيء ومناهجه متشابهة كالبيانات الوزارية وخطابات الترحيب والفصول التي لا تحمل أية تباشير.. جلس طويلاً على أرائك اللغة ينتظر الحروف الشاردة الهاربة أو الخائفة، أو قصيدة سيئة السمعة ليطهرها بدون مطر أو بخور للصلاة. يبدأ مجموعته بخريف المجد وينتهي بوصية الشتاء لربيع يسير بك الكتاب عبر أكثر من مائة عنوان ولعل المدقق في نصوصه يشعر جلياً بدخول الشمس حتى آخر زاوية في أحلامه التي كانت، هل كان يشعر حقاً بالوداع؟! يقول في إحدى نصوصه /لا تمزق شيئاً/. عندما أفشل في إقناع أحد بوجهة نظري بالتجارب الملموسة والأمثال الشعبية والحجة بالحجة وبالشعر والمسرح والصحافة والشعارات والغناء. ألجأ إلى السخرية! كان الموت بجسّ نبضي وأنا نائم. أما الآن.. وأنا مستيقظ كنت أكتب كثيراً عن الموت دون أن أخافه أما الآن.. فأنا أخافه وأنا بكامل لياقتي وأتبرع بالدم للمرضى والمعوذين وبعد، ترى ألم يكسر قلم النثر المبدع الجميل مع رحيل مبدعه الذي غادرنا في ربيع امطرت سماؤه وحلاً، وهو الذي اعتبر الربيع أحد اصدقائه الخلص، لأن كل ما فيه زائل عابر، وكأنه يؤكد له أنه حقاً سفير فوق العادة للوصول التي ربطة بها علاقة قديمة كعلاقته بالطفولة والحب الأول. وأخيراً نقتطف من -جمهورية الدموع- ما نقدمه منه إليه كلمات بكل تأكيد نحن عاجزون عن قولها: شكراً يا نبيّ الرمال على ولادتي في سلمية على عيوني الزرقاء كسمائها وشعري الأشقر كشمسها ولوني الأبيض كحليب أمهاتها وقطعانها وأطرافي المتناسقة كخطوط كرومها وصوتي الأجش كحفيف أشجارها وغسيلها وقامتي الطويلة كسهراتها وقصائدي المعلقة كالمصاحف في صدر بيوتها وحوانيتها..
|