في البدء كانت الاسطورة ملحمة اقهات الاوغاريتية
ملحق ثقافي 18/4/2006 فراس السواح على الرغم من عنوان هذه الملحمة الذي يشير إلى شخصية بطلها المدعو أقهات إلا أن قصة أقهات هنا تشكل الجزء الثاني من قصة تدور حول أبيه المدعو دانئيل (أي أيل يقضي) وهو شخصية ملكية كانت حكمتها واستقامتها موضوعا ملحميا قديما،
ووصل ذكرها أسماع مؤلف سفر حزقيال التوراتي الذي ذكر دانئيل (أو دانيال كما ورد في الترجمة العربية) باعتباره واحدا من أكثر الشخصيات برا وعدلا في تاريخ البشرية. وصلتنا ألواح هذه الملحمة في حالة غير سليمة ومليئة بالتشوهات، وما بقي منها يدور حول دانئيل وابنه أقهات وشخصيتين رئيسيتين أخريين هما فوغة أخت أقهات، والإلهة عناة ربة الخصب والحب في أوغاريت، فقد كان دانئيل حاكما محبوبا وقاضيا عادلا، ولكنه كان عاقرا لم يرزق بولد يرثه على العرش، في بداية اللوح الأول من اللحمة وبعد عشرة أسطر تالفة نجد دانئيل معتكفا في المعبد يقدم القرابين للآلهة ويتضرع إليها علها تهبه ابنا، في اليوم السابع من اعتكافه يظهر له الإله بعل مشفقا علي بؤسه، ويعده بالتوسط لدى كبير الآلهة إيل ليزيل لعنة العقم عنه، ثم يتوجه بعل إلى مقر إيل ويبسط أمامه قضية دانئيل: ليس له ابن كما لإخوته، ولا وريث كأولاد عمومته. لقد قدم ذبيحتة لطعام الآلهة وفاء قربان ليشربوا. لتباركنه يا أبي، لتقوينه ياخالق الخلائق، فيكون له ابن في بيته، وذرية في وسط قصره (استجاب إيل لالتماس بعل، وبارك دانئيل: عندما يقبّل زوجته سوف تصبح حاملا وعندما يعانقها سوف تلد وسوف يجد في بيته ابنا، وذرية في وسط قصره (يتقوى قلب دانئيل وتعود إليه روحه، بعد هذا الوعد، فيذهب إلى بيته، وهناك) في غرفته اطمأن، فصعد إلى سريره وانحنى يقبّل زوجته، فحمحمت من ضمّه حمحمت، وحبلت لتلد وحمحمت ليكون له ابن في بيته، وذرية في وسط قصره، فيقيم نصبا لإلهه الحامي، ومصلى في الحرم المقدس ويرد عنه إهانة من يحتقره، ويطرد الذي يقلق راحته بعد ذلك يولم دانئيل وليمة لإلهات الحمل والولادة ستة أيام، وهن على ما يبدو يقمن بإنشاء تراتيل معينة تعين المرأة الحامل، وفي اليوم السابع يصرفهن مكرمات، ويلبث في انتظار الأشهر المتبقية لولادة وريثه. يلي ذلك جزء طويل مفقود من النص، يقص ولا شك عن ولادة ابن لدانئيل دعاه أقهات، وكيف كبر وصار فتى مولعا بالصيد متمرسا بفنونه. وعندما يغدو النص واضحا للقراءة نجد دانئيل جالسا عند بوابة المدينة قرب بيدر القمح يقضي للأرملة وينصف اليتيم، عندما رأى عن بعد الإله كوثر- حاسيس، إله الحِرف والصناعة قادما إليه من موطنه في مصر وبيده قوسا وعلى كتفه جعبة نبال فنادى زوجته قائلا: اسمعي أيتها السيدة دانتيه أعدي خروفا من القطيع لإكرام كوثر- حاسيس وتجهزي لإطعام وسقي الآلهة. استجابت دانتيه وأولمت للإله الضيف فأكل وشرب على مائدة دانئيل (قارن مع سفر التكوين 81 الذي يقص عن زيارة الإله يهوه مع اثنين من ملائكته وتناوله الطعام على مائدة ابراهيم) وعندما هم كوثر- حاسيس بالمغادرة أعطي القوس الذي يحمله والجعبة والنبال إلى دانئيل هدية لأقهات قاءلا: إن بواكير صيدك يابني سوف تكون قربانا في المعبد. بعد نقص آخر في النص نجد الإلهة عناة مدعوة إلى وليمة في بيت دانئيل احتفالا بالقوس، كانت تقطع بالمدية ضلع حمل مشوي وتعب من الخمر كأسا بعد كأس حتى انتشت وسرّ فؤادها، وعندما عُرض عليها القوس دهشت، وهي الصيادة الماهرة، من جماله واتقان صنعته وتاقت نفسها إلى امتلاكه، وفي نوبة من نوبات غضبها التي نعرفها من نصوص أخرى أيضا، رمت كأسها إلى الأرض. ورفعت صوتها متوجهة بالقول إلى أقهات: اسمع يا أقهات، أيها الفتى البطل أطلب فضة مني أعطيم، اطلب ذهبا أهبه لك. ولكن أعط قوسك لعناة، وأعطها الجعبة والنبال ولكن أقهات يرفض طلبها، ويقول لها بأن تطلب من كوثر- حاسيس أن يصنع لها قوسا مماثلا، فتتمادى عناة في ترغيب أقهات، عارضة عليه أن تهبه الخلود: اطلب الحياة يا أقهات، اطلب أيها البطل اطلب الحياة أعطيكها، والخلود أهبه لك فتستوي مع بعل بسنوات الحياة، وبالشهور مع أبناء ريل (يرفض أقهات كرة أخرى، ولكن جوابه هذه المرة يتخطى حدود اللياقة) لا تكذبي علي أيتها البتول، فكذبك على البطل عيب ما هي آخرة الإنسان، وما الذي يأخذه من دنياه؟ يصبون الكلس على رأسه، والجص على جمجمته سأموت مثل كل إنسان كبقية الموتى نعم سأموت شيء آخر أريد قوله لك: القسيّ وحدة للرجال، فهل عرفت النساء الصيد قط؟ بعد أن تحصل عناة على مباركة إيل في مسعاها للانتقام، تستعين بخادمها يطفان وتزين له الاعتداء على أقهات وانتزاعه القوس منه، سوف تحوله إلى نسر يطير مع سرب النسور، وعندما يجلس أقهات إلى الطعام سينقض عليه ويضربه على رأسه ويستولي على القوس، سارت الخطة حسب المرسوم لها ولكن ضربة يطفان كانت من القوة بحيث قتلت أقهات، وبينما كان يطفان محلقا فوق البحر في طريق عودته إلى عناة سقط القوس من يده وضاع، فبكت عناة وناحت، فقد قتلت أقهات ولم تحصل على قوسه، فأخذت على نفسها عهدا بأن تعيده إلى الحياة. بعد ذلك نجد دانئيل من جديد جالسا عند بوابة المدينة يقضي بالعدل. ولكن ابنته فوغه تلاحظ أن الخضرة قد ذبلت في الحقول وأن سربا من النسور يحوم فوق بيت أبيها، وكلا هاتين الظاهرتين يدل على العنف والموت غير الطبيعي، فيطلب دانئيل من انبته (التي يصفها النص بأنها العارفة بمسالك النجوم، وحاملة الماء على كتفيها، وناثرة الندى على الحبوب) أن تسرج له حمارا، ويخرج بصحبتها ليتفقد حقوله الذابلة، ويصلي لانهمار المطر، ولكن الأرض كانت قد دخلت في دورة جفاف سوف تدوم سبع سنوات بسبب موت أقهات، وفي هذه الأثناء جاء من يخبرهما بموت أقهات، بكى دانئيل على ابنه وصاح: سوف أصرع من قتل ابني، سوف أقضي على من قضى على ذريتي، عند ذلك تقدمت منه فوغة ملتمسة إذنه وبركته لكي تذهب وتنتقم لأخيها، فباركها وودعها .ترتدي فوغة زي جندي وتتقلد خنجراً وتلبس فوق ذلك ثوب امرأة، ثم تذهب للبحث عن يطغان فتجده عند أطراف البادية بين سكان الخيام. يدعوها يطفان الى الطعام والشراب ولم يعرف هويتها، فتسقيه حتى تلعب الخمرة برأسه ويأخذ في التباهي بقتل أقهات.يصعد الدم الى رأس فوغه فتهتاج هياج أسد وتغضب غضب أفعى. وهنا يتهشم الرقيم الأخير وينتهي النص فجأة دون أن نعرف نهاية القصة. يبدو تفسير هذا النص صعباً للوهلة الاولى،بسبب الفجوات في الالواح والانقطاع المفاجىء، قبل النهاية. ولكن القراءة المتأنية من قبل مطلع على آداب الشرق القديم ما تلبث حتى تكشف له على عدد من التقاطعات مع نصوص أوغاريتية ورافدينية وحتى توراتية، تساعده على تلمس المعنى. ففي التراث الرافديني لدينا نص ميثولوجي يحكي أيضاً عن ملك عاقر اسمه إيتانا كان ملكاً على مدينة كيش، وهي أول مدينة اسسها الآلهة وأسكنوا فيها البشرت، واحدثوا لها منصب الحلوكية، واختاروا ايتانا ليكون ملكاً عليها.و لكن ايتانا تقدم بالعمر ولم ينجب ولداً. فراح يصلي للآلهة لتزيل عنه لعنة العقم، الى أن افشى له الإله شمس سر نبتة موجودة في السماء زرعتها الإلهة عشتار تشفي أوراقها من العقم. فامتطى إيتانا ظهر نسر جبار وحلق عاليا حتى و صل الى سماء آنو السابعة وحصل على النبتة. تلقي أسطورة إيتانا والنسر هذه أضواء كاشفة على معنى الوعد الإلهي بالانجاب فعلى الرغم من الطابع الدنيوي لمؤسسة الحلوكية، فإنها بشكل ما مؤسسة ذات طابع قدسي، لأنها هبطت من السماء،ولأن ملوكها الأوائل تم اختيارهم من قبل العناينة الإلهية، ولذا فإن الحق الذي يحكمون بموجبه هو حق إلهي. ومثلها أيضاً مؤسسة الحلوكية الوراثية التي هبطت بدورها من السماء عن طريق نبتة الاخصاب وساعدت على توريث العرش، وانتقال الحق الالهي الى الوريث. وبذلك تغدور الاسرة الملكية بمثابة صلة وصل بين العالم الإلهي وعالم البشر والطبيعة .فإذا مات دون وريث اختل نظام الطبيعة وحل الجفاف. وكذلك الأمر إذا مات الوريث الذي يضمن للسلالة استمرارها. وفي نص أوغاريتي آخر هو ملحمة الملك ،نجد أن الملك يدعى في أكثر من موضع بابن الاله إيل، وذلك من قبيل التوكيد على قدسية مؤسسة الحلوكية، وعندما يقعده المرض عن ممارسة مهامه يختل نظام الطبيعة وتمحل الارض، فيتدخل الاله بعل لدى كبير الآلهة إيل ليعمل على شفاء كرت. فإذا انتقلنا الى الادب التوراتي، وهو وريث مباشر للأدب الكنعاني، نجد أيضاً فكرة السلف المقدس العقيم الذي يصلي لربه من اجل وريث. ففي سفر التكوين نجد ان كلاً من الاسلاف المقدسين ابراهيم واسحاق ويعقوب، كان في البداية بلا ذرية من زوجته الرئيسية او المفضلة لديه، وأن إله كنعان المدعو إيل هو نفسه الذي يعدهم بالذرية ثم يفي بوعده. فها هو إيل، إله سفر التكوين يقول لإبراهيم في الاصحاح 51:« لاتخف ياابراهيم، أنا ترس لك. أجرك كثير جداً فقال له:لايرثك هذا، بل الذي يرثك».وتنكر فكرة الوعد بالانجاب في قصة ولادة شمشون وقصة ولادة النبي صموئيل، وعدد آخر من الشخصياتت. اعتماداً على هذه التقاطعات والمقارنات التي لم أوردها جميعاً، نستطيع تصور مجرى الاحداث في القسم الأخير المفقود من ملحمة أقهات، كما نستطيع تقديم بعض الافكار بخصوص معنى الملحمة. فمن شبه المؤكد أن الإلهة عناة قد استعادت أقهات الى الحياة كما وعدت، مثلما ساعدت قبل ذلك في استعادة زوجها بعل الى الحياة بعد هبوطه الى العالم الاسفل. وأغلب الظن ان فوغة اخت أقهات قد لعبت أيضاً دوراً مهماً في استرجاع اخيها فهي بشكل ما الصيغة الانسانية للإلهة عناة، والنص كما رأينا يطلق عليها ألقاباً ذات صلة بالعملية الإخصابية. أما عن معنى النص وغايته، فنستطيع إجمالها في فكرتين مترابطتين: الاولى قدسية مؤسسة الحلوكية وصلتها بالعالم الإلهي، والثانية الدور الذي تلعبه الشخصية الملكية في كونها صلة وصل بين القوى الإخصابية الكونية ومظاهر حياة الطبيعة على الارض. فإذا خارت قوى الملك وألم به مرض انعكس ذلك على الارض والحياة الزراعية فيها. وبشكل عام فإننا نستطيع اعتبار ملحمة أقهات رديفاً ميثولوجيا لأسطورة بعل وعناة، فهي تحتوي على العناصر نفسها على الرغم من أن الشخصية المحورية هنا هي شخصية إنسانية لا إلهية.وأغلب الظن أن هذه الملحمة كانت بمثابة نص طقس يُتلى أو يمثل درامياً لدرء خطر المحل.
|