المستمرة فصولا في منطقة الشرق الأوسط و آسيا الصغرى , انعطفت القارة الأمريكية الجنوبية و الوسطى نحو اليسار, مستفيدة من إخفاقات السياسة الخارجية الأميركية , لا سيما في أفغانستان و العراق.فقد عاشت القارة الجنوبية و الوسطى سنة كاملة حافلة بالانتخابات :17 استحقاقا انتخابيا منذ كانون الأول /ديسمبر 2005, إضا فة إلى الاستفتاء حول توسيع قناة بنما.وحدها المكسيك , هي التي فاز فيها اليمين و بشق الأنفس.
وباستثناء حالات قليلة جدا, هرع المواطنون(اللاتينيون ) إلى صناديق الاقتراع للتصويت بكثافة. ففي كل مكان اعتبرت هذه الانتخابات كرهانات حقيقية لترسيخ الديمقراطية التمثيلية. . فبعد سقوط الديكتاتوريات العسكرية في عقد الثمانينيات من القرن الماضي, وموجة الديمقراطية التي اجتاحت أمريكا اللاتينية في عقد التسعينيات, ها هي الخريطة السياسية تؤكد التوجه الاجمالي للناخبين نحو اليسارأو وسط اليسار. وبذلك أصبح الاشتراكي المناهض للسياسة الأمريكية معطى جديدا في القارة الجنوبية و الوسطى.
هل هذا يعني أن المواطنين الأميركيين اللاتينيين أصبحوا من اليسار? إذا كان الناخبون يصوتون لمصلحة اليسار, فإن هذا لا يعني أن العقليات التقليدية قد اختفت, كما أنه لا يعني أيضا أن أميركا اللاتينية تحلم بالثورة أو بالعودة إلى مرحلة الحرب الباردة.
لقد اعتقد الجميع أن ساعة النيوليبرالية المظفرة قد دقت . ففي ظل الضغوطات التي مارستها المؤسسات الدولية المانحة مثل صندوق النقد الدولي و البنك الدولي, و النظرة المتحرسة للولايات المتحدة الأمريكية, بحثت حكومات أمريكا اللاتينية في أمر معالجة أمراضها الهيكلية - الفقر, الفساد, عدم المساواة, و المديونية الخارجية- من خلال التكيف مع القواعد الجديدة للعولمة الرأسمالية المتوحشة.باستثناء كوبا, حيث إنه بعد خمس عشرة سنة من انهيار الشيوعية السوفيتية,حاولت هذه الثورة الخمسينية أن تحافظ على أسطورة( الاشتراكية في بلد واحد).
و تعيش أمريكا اللاتينية تحولا عميقا رصينا. إنها تتحرر من النماذج الاقتصادية المستوردة التي طبعت كل تاريخها منذ عقود. فمن البنيوية إلى النقدية , و من الماركسية إلى الليبرالية, رقصت القارة كلها رقصة دائرية من( البراديغمات ),متأقلمة في المدارات الإستوائية, الدروس القادمة من الجار الكبير الشمالي . الرّياح تغيّراتّجاهها .فقد حملت الانتخابات الديمقراطية إلى السلطة في بلدان أمريكا اللاتينية , الواحدة بعد الأخرى, قيادات تتبنى بشكل أو بآخر, اليسار. فلم يكد يمر أقل من شهر حتى فاز كل من دانيال أورتيغا في نيكاراغوا , و رافائيل كورييا في الإكوادور , و هوغو شافيز في فنزويلا , عبر انتخابات ديمقراطيو وشفافة , أوصلتهم إلى سدة السلطة, إذ تزايد المخاوف الأمريكية من اتساع نطاق هذه الظاهرة.
إن التطورات التي أسفرت عنها العملية الانتخابية في أمريكا اللاتينية و الوسطى , مسألة جديرة بالاهتمام,إذ إن اليسار هو الذي يحقق انتصارات في الانتخابات, و هذا بدون شك يعزز المحور المناهض للولايات المتحدة الأمريكية في القارةالجنوبية و الوسطى . وعلى الرغم من أن بلدان أمريكا اللاتينية اعتنقت نهج الليبرالية الاقتصادية في سياق العولمة الرأسمالية المتوحشة التي تقودها واشنطن, فإن شعوبها زادتها العولمة فقرا على فقر,وفاقمت عندها التفاوتات الاجتماعية الحادة, عوض ان تنتشلها من واقعها المتردي الذي أوقعته فيها الديكتاتوريات العسكرية بعد مرحلة الاستقلال.
معركة أميركا اللاتينية بدأت, إذ إنه لأول مرة منذ عقد الستينيات أصبحت القارة اللاتينية مسرحا لصراع إيديولوجي و سياسي و اقتصادي, بين محورين متناقضين . المحور الأول , ويمثله هوغو شافيز , الذي بات يمثل الوريث الآخر للزعيم الكوبي فيديل كاسترو, وعلى أكثر من صعيد , عوض مهندس (الثورة البوليفارية) منذ سنتين , زعيم الثورة الكوبية على الساحة الدولية. وقدأسهم ارتفاع أسعار النفط , في جعل هوغو شافيز رئيسا قويا لفنزويلا, خامس منتج للنفط في العالم. وليس خافيا على أحد , أن شافيز بات يتزعم جبهة عالمية مناهضة للولايات المتحدة آخذة في الاتساع , متكونة من اليساريين في أميركا اللاتينية, , فضلا عن تحالفاته مع خصوم الولايات المتحدة مثل إيران وسورية.
شافيز الطامح إلى تشكيل جبهة اليسار الأكثر تشدداً في أميركا اللاتينية, المتمثل بفنزويلا وبوليفيا وكوبا,و الإكوادور, و نيكاراغوا, قياسا إلى التوجهات اليسارية المعتدلة التي باتت تسيطر على بلدان كالأرجنتين والبرازيل والتشيلي وغيرها, المناهضة للامبريالية الأمريكية , مستلهما في ذلك من الإرث البوليفاري العظيم للتعبير بشجاعة عن ضمير أمريكا اللاتينية التائقة إلى التحرر والوحدة, قد تجاوز أيضا فيديل كاسترو كقائد لليسار الثوري في أمريكا اللاتينية.
شافيز أيضا, أكثر منه فيديل كاسترو, أصبح الرئيس الذي لا يطاق, مجبرا في ذلك قيادات اليسار المعتدل مثل البرازيلي لولا دي سيلفا, و التشيلية ميشال باشليت, على القيام بعدة التواءات ,لإخفاء خلافاتهم عقب القمم الإقليمية, أو مرتكبا أحداثا دبلوماسية مع المكسيك. وعزز الاستياء في شتى أنحاء أميركا اللاتينية من السياسات الأميركية موقف تشافيز الذي استقبلته حشود من سكان الأحياء الفقيرة في هايتي عند وصوله في زيارة قصيرة للبلاد, الامر الذي يسلط الضوء على المساعدات الفنزويلية للدولة الفقيرة.
المحور الثاني , وتمثله الإدراة الأميركيةالمنهكة , حيث قام رئيسها جورج بوش بجولة في أميركا اللاتينية شملت كل من البرازيل ,و الأوراغواي, و كولومبيا,وغواتيمالا, و المكسيك,رافقتها تظاهرات معادية للولايات المتحدة, وقابلها الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز بجولة موازية كانت محطتها الأخيرة في هايتي حيث لقي استقبال الابطال.
و يعول الرئيس بوش على الرئيس المكسيكي فيليبي كالديرون من اليمين ,و اليسار الاشتراكي الليبرالي الذي يمثله الرئيس البرازيلي لولا دي سيلفا , و الرئيسة التشيلية ميشال باشليه, و الذي لن يتراجع عن اقتصاد السوق ,لأنه لايريد أن يرعب رجال الأعمال المحليين .وهو يريد طمأنة المستثمرين الأجانب الذين يلعبون دوراً حاسماً في النمو الاقتصادي الذي جعل من البرازيل و تشيلي الأكثر تقدما في أمريكا اللاتينية.
زيارة بوش من ناحية , و زيارة شافيز من ناحية أخرى , تعكسان صراعا على النفوذ بين الولايات المتحدة والنظامين في فنزويلا وكوبا , على أميركا اللاتينية, إذأخذ هذا الصراع من جهة شكل ابتزاز من حيث المساعدات الأميركية للإبقاء على نهج الليبرالية, ومن جهة أخرى شكل وعد بالحصول على نفط فنزويلي بأسعار مخفضة.
إن انتصار اليسارفي أميركا اللاتينية يشكل هزيمة جديدة للسياسات الليبرالية المتوحشة التي تقودها واشنطن في حديقتها الخلفية, ويعطي دفعا معنويا للقوى الديمقراطية في العالم لمواجهة الهيمنة الأميركية.
* كاتب تونسي