وأخيراً, رشح القائمون على المحطة خمسة مذيعين, وقاموا باختيار الأجدر بينهم, والأوفر حظاً - كما عبر هو نفسه بعد فوزه.
اشتهر ريجرز بلقاءاته المثيرة مع أناس من كل أطياف المجتمع: رجال أعمال, سيدات مجتمع, فنانين وفنانات, سياسيين, مفكرين.. وفي كل مرة, كان يؤكد للناس بأنه مثقف, ومطلع, ومحاور ممتاز.
الاختيار الصعب للبديل (حتى لو كان لفترة قصيرة) ليس استثناء في حال ريجرز, فهناك عدد كبير من المذيعين الفضائيين, يضعوننا أمام مشكلة البديل في حال غيابهم; وهذا ليس سوى دليل على التفرد في إدارة الحوار, والكاريزما الخاصة, والثقافة الكبيرة.
إذا أمعنا النظر في برامج تلفزيوننا السوري, وتطلعنا إلى المقدرة التي يتمتع بها مذيعوه على جلب المشاهد, فإننا سنواجه السؤال نفسه عن البديل, ليس بحسرة هذه المرة أو بسبب الشعور بالفقدان (إذ لا شيء سنخسره سوى الطلة البهية لمذيعاتنا ومذيعينا) بل بدافع من الواجب تجاه المشاهدين لدفع هذا التلفزيون الصلب والرابط الجأش للسير سنتيمتراً واحداً إلى الأمام.
وإذا ما اتهمنا بالتجني على تلفزيوننا وعلى مذيعيه ومذيعاته, وبأن لنا مصالح شخصية, فإننا سنوجه سؤالاً مبدئياً: ما البرنامج الذي يبث عندنا الآن, ويحقق شعبية محلية على أقل تقدير? ومن ثم السؤال الآخر: هل هناك من يستطيع أن يذكر ثلاثة برامج على التلفزيون السوري, وأن يعرف أسماء مقدميها?
أين المشكلة?
في كل مكان من العالم يوجد شيء ما يقال له (ثقافة), وهو لا يعني الاطلاع على الأدب فقط, بل يشمل كل نواحي الحياة, فهناك مثلاً: ثقافة الريشة, ثقافة الإزميل, ثقافة العين, ثقافة الصيد, ثقافة... وكل واحدة من هذه الثقافات لها أصول, تستطيع من خلالها أن تميز بين ممتلكيها ومدعيها والمشوهين لها والمتطاولين عليها.
وهناك أيضاً ثقافة تدعى (ثقافة الظهور على الشاشة), وهي فن في الأداء, ويخضع الراغب في هذا الفن - في معظم تلفزيونات العالم - إلى تدريب وتأهيل ومران, ولا يحلم بالارتسام في أحداق الناس, إلا بعد أن يصبح على قدر من الأهلية والكفاءة.
نحن لا نكترث في تلفزيوننا لثقافة الظهور, ولم يكن عندنا يوماً الأداء التلفزيوني فناً له شروطه; إذ ترضخ ثقافة الظهور إلى ثقافة الواسطة والمحسوبية, وهذه ثقافة نُحسد عليها. لذا ليس من الضروري الإلمام بالثقافات الأخرى, التي يعتبرها تلفزيوننا فائضة عن الحاجة. وهذا ما يدفعنا أخيراً إلى الاطمئنان بأن هؤلاء المذيعين والمذيعات, لم ينتبهوا, حتى هذه اللحظة, بأن الزمن الجديد يحتاج إلى أناس بديلين عنهم: مرنين, محاورين, وموجودين ليس على شكل صور تتحرك على الشاشة, بل كفاعلين ومغيرين, والأهم مثقفين.
عبر ثلاثة آلاف صفحة, فتش مارسيل بروست في الزمن الذي مضى: زمن فيكتور هوغو وفيلاسكيز ورامبرانت وغيرهم, وزمن لويس الرابع عشر ووصاياه لابنه عن كيفية استقبال الأمراء والسادة الكبار. وانتهى بروست إلى اعتبار هذا الزمن زمناً مفقوداً.
ومع كل هذا التراكم الزمني, الذي حاول بروست استحضاره ومحاكاته, كان من السهل على أحدهم أن يتخيل القرن العشرين من دون بروست (وبحثه عن الزمن المفقود). وهكذا فقد أصبح بروست مفقوداً هو نفسه, بالإضافة إلى جهده الكبير.
وعلى نفس السوية, يمكنك أن تتخيل الفضاء العالمي خالياً من كل مذيعيه ومذيعاته, مهما بلغوا من التألق وواكبوا الزمن أو سبقوه, ومهما قدموا من خبرة ومتعة وثقافة (وبينهم أوبرا وبيل كوسبي وكثير من العرب المرموقين عالمياً), ولكن لا يمكنك أن تتخيله من دون مذيعاتنا ومذيعينا, العالقين في زمن بدايات التلفزيون. لقد أصبحوا تراثاً لا يمكن أن يستعاد, وأمست البدائل مفقودة, حيث لا يمكن للزمن أن يفعلها مرة أخرى, وينجب هؤلاء الأساطير.