ما يحكم التجمعات الإنسانية من قوانين وآليات عمل تسعى للدفاع عن مصالح الجميع دون استثناء لا سيما منها عمليات النهوض بالشعوب الفقيرة والمغلوبة على أمرها إلى مراتب متقدمة من العيش والاستقرار باعتبار أن أكثرية شعوب المعمورة مصنفة في خانة ما أطلقوا عليه اسم العالم الثالث أو الشعوب الفقيرة قياساً إلى مستوى الحياة والثراء الذي وصلت إليه الشعوب الأوروبية والولايات المتحدة والدول الصناعية الأخرى.
لكن حقيقة الأمر أن الأهداف النظرية التي وضعت لتلك التجمعات الدولية تحت هذا المسمى أو ذاك يحكمها من الداخل أهداف وغايات أخرى نستطيع القول أنه لا مكانة للضعفاء فيها أو الفقراء وكم من تجمع عالمي أبهرنا ثوبه من خلال القوانين التي أنشىء عليها لكننا في واقع الأمر نصبح مشدوهين أمام ما نجده على أرض الواقع فيما تنشده تلك المنظمات في تبنيها خدمة مصالح الأقوياء على حساب الشعوب والدول الفقيرة ولعل منظمة التجارة العالمية باعتبارها اليوم تمثل أكبر المنظمات الدولية من حيث عدد الدول الأعضاء فيها أو من حيث تأثيرها في هوية الاقتصاد العالمي وتحديد مساراته لهذه الجهة أم تلك هي خير مثال على الحال التي آلت إليه في ظل النظام العالمي الجديد. فقد نشأت هذه المنظمة بعد أن أدى التحرير الاقتصادي المتسارع لأسواق السلع والخدمات ورؤوس الأموال والتقنيات والتي شهدت جميعها نقلة نوعية بل وعملاقة في القرن الماضي وعلى هذا الوقع أنشئت المنظمة وأنظم إليها أكثر من /120/ دولة بمختلف انتماءاتها السياسية ومستوياتها المالية والاقتصادية وعلى الرغم من أن هذه المنظمة التي يرى ولاة الأمر فيها أي الدول الغنية أنها الوسيلة التي ستأخذ بيد الدول الفقيرة والصغيرة نحو النماء وتحقيق الرفاه لشعوبها إلا أن الانتقاءات وهواجس الانضمام إليها ما زالت ماثلة سواء لدى الذين انضموا إليها من الشعوب والدول الفقيرة أو التي لم تنضم إليها. وبالطبع هذه المخاوف مبررة وتستند إلى مجموعة من العوامل الأساسية والهامة لدى مجتمعات هذه الدول الفقيرة, إذ أن التخوف الأساسي يكمن في أن هذه المنظمة تحث في قوانينها على حرية التبادل التجاري وبالتالي رفع الحماية عن المنتوج الوطني أي بمعنى أن يؤدي هذا المنتوج إلى انخفاض في المعدلات الإنتاجية لتعرضه لمنافسات خارجية قوية من جانب الشركات العملاقة في مجال الإنتاج والكفاءات والسيطرة الواسعة لاحتكاراتها.
كما أن الزيادة الحاصلة في نمو الناتج القومي إثر تحرير التجارة قد تكون مؤقتة ولا تؤدي إلى تغيير في الهياكل الإنتاجية وهو ما تتبناه الدول العربية والدول النامية بشكل عام باعتبار أن صناعاتها هي في الأغلب ناشئة وهي معرضة للخطر المحدق بها نتيجة تحرير التجارة الدولية والاستثمارات الأجنبية التي تحميها قوانين وأنظمة منظمة التجارة العالمية. لكن في المقابل ترى هذه المنظمة أن هذا التخوف من الدول النامية غير مبرر لأن قوانين حرية التبادل التجاري لديها تهيئ المناخ المناسب للنمو والتنمية ودعم الصناعات الصغيرة في الدول النامية وهي تأخذ بعين الاعتبار هذه المصلحة الوطنية فيها. إضافة إلى أن هذه الدول تمنح لدى انضمامها للمنظمة فترة زمنية معينة قبل أن تبدأ بتطبيق بنود الاتفاقية معها وكذلك الحال للدول الفقيرة حيث توفر لها الالتزامات. ويزيد القائمون على هذه المنظمة الدولية في دفاعهم عنها بأن قوانينها تمنح بعض الحكومات بعض الدعم وتعتبر التنمية المستدامة هدفاً أساسياً بالنسبة لها.
إن النظرة إلى منظمة التجارة العالمية يجب أن تكون متوازنة بمالها وما عليها إذ أن الجانب الإيجابي لها يتمثل في ثلاث مسائل: الأولى ضرورة التمييز بين تحرير التجارة الدولية الذي يفترض أن يسعى إلى نمو الناتج القومي وبين حرية التبادل التجاري التي تتعدى إلى تغيير هيكليات الإنتاج وبالتالي إلى تنمية اقتصادية مستدامة مبنية على زيادة في معدلات التصنيع.
أما المسألة الثانية فتتعلق بضرورة عدم التسرع فيما يتعلق بالنتائج المتوقعة من الاستثمارات وتحرير التجارة دون تمييز, أما المسألة الثالثة فهي الاعتقاد بأن تحرير التجارة أو الاستثمارات الأجنبية يمكن أن تحدث النتائج المرغوب فيها في الدولة الأقل نمواً بدون تدخل إيجابي من هذه الدولة ومع ذلك فإن الدول النامية تعتبر أن اجحافاً قد لحق بها جراء حرمانها من وضع قيود على الاستثمارات الأجنبية فيها كما تعتبر هذه الدول أن إلغاء القيود على الاستثمارات مطلب موجه إليها دون غيرها ولذلك فهي تطالب بإعادة النظر في صياغة جديدة بشأن إجراءات الاستثمار المتعلقة بالتجارة كما ترى الدول النامية في انتقادها للمنظمة الدولية للتجارة بأنها ومنذ تأسيسها تعمل على تركيز الثروة العالمية لدى عدد قليل من الأثرياء فيما رقعة الفقر والجهل في ازدياد ملحوظ وارتفاع في نسبة البطالة. ولهذا السبب نجد أن العديد من المنظمات الإنسانية والاجتماعية الدولية غير الحكومية أطلقت حملات واسعة عبر ناشطيها في مختلف الدول مع اجتماع كل مؤتمر وزاري للمنظمة المذكورة وهذا ما حصل فعلاً مع اجتماعات المنظمة في مدينة سياتل بالولايات المتحدة وفي باريس في جنيف لتبرر مساوىء النظام الاقتصادي في العالم وما تهدف إليه المنظمة المذكورة في الانحراف عن أهدافها الحقيقية لمزيد من التعاون والمساعدة على تجاوز المحن. وفي آخر تحدٍ من تلك المنظمات والهيئات غير الحكومية لدور وأداء منظمة التجارة العالمية أنها وزعت بيانات وقعتها /1200/ منظمة من 87 دولة تندد باتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء جراء قوانين المنظمة وآليات عملها باعتبارها تفتقر للشفافية حيال الدول الفقيرة فيما الدول الغنية من خلال تلك القوانين تسلك سلوكاً حمائياً لمنتجاتها ما كلف ذلك الدول الفقيرة أكثر من سبعمائة مليار دولار سنوياً وهو يعادل أربع عشرة مرة قيمة المساعدات التي تحصل عليها هذه الدول الفقيرة في إطار مساعدات التنمية.
ومن أبرز تلك المنظمات غير الحكومية التي تنقد آلية عمل منظمة التجارة الدولية منظمات أميركية اتهمتها بازدواجية معاييرها وكذلك في فرنسا حيث رفضت المنظمة الفرنسية للمنظمات غير الحكومية الاعتراف بمنظمة التجارة الدولية وطالبت بفرض ضرائب لمساعدة الدول الفقيرة وكذلك الأمر في اليابان وكوريا الجنوبية حيث طالبت منظمات غير حكومية منظمة التجارة العالمية بالعمل على إيجاد قواعد جديدة لضمان الحفاظ على الأمن الغذائي وتوقف هجرات المزارعين والعمالة باعتبار أن ذلك سيولد أزمات كبيرة في البطالة لا حدود لها ومن الصعب السيطرة عليها ورغم ذلك فإن أمر الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية بات أمراً لا مفر منه وبات من الصعب لأي دولة أن تبقى مبتعدة عنها رغم ما تقدم من ملاحظات ذلك لأن النظام العالمي الجديد يسير لجعل هذا العالم أشبه ما يكون إلى حلقة واحدة بحيث يسهل التحكم فيه من كل الجوانب وهذا هو الهدف الآني والمستقبلي لأحادية القطب العالمي الجديد /الولايات المتحدة/.
وإذا كانت دولة كبرى كالصين أمضت عشر سنوات من المفاوضات للدخول إلى عضوية المنظمة وطبعاً اللائحة تطول باسماء دول أخرى فتصوروا الأمر كيف سيكون دخول هذا المضمار الدولي التجاري بالنسبة لدول صغيرة وفقيرة لكن ومع ذلك فلا بد القول من أنه ربما يكون الخيار المتاح للدول النامية للتعامل مع هذه المنظمة ضعيفاً إن لم يكن معدوماً إلا أن ضعف الخيارات أمامها يجعلها في الواقع ورغم محدودية إمكاناتها اختياراً لأقل الخسائر أمام عولمة جارفة لا ترحم الضعيف.