|
التسول حكاية بلا نهاية...من ضغط الحاجة .. إلى وسيلة منظمة للكسب المريح والسريع تحقيقات لا تزعج نفسك فهما متسولان, راقبت العراك فإذ بي أكتشف أنهما اختلفا على مناطق نفوذ, كل واحد يدعي أن هذا السوق له, ولم ينتهيا حتى هرب أحدهما واستل من جيبه هاتفا خليويا شاكيا لرجل ناداه بأبي فضل, وبالفعل انتهى الخلاف بأن استوقف هذا الطفل سيارة أجرة وغادر, تابعت الطفل الآخر لنصف ساعة تقريبا فإذ به يجني قرابة المائتي ليرة, اقتربت منه وسألته بعد أن أعطيته عشر ليرات, ما هو دخله اليومي فقال خير الله, بس موكلن إلي.
-لمين? -للسيارة ولأبو فضل وللبيت. -أي سيارة? -الهونداية اللي بتجيبنا لهون الصبح وبتاخدنا المسا. -كم تدفعون لها? -300ليرة باليوم. -ولأبو فضل? -500ليرة. - مين أبو فضل? -اللي براقبلنا دوريات الشرطة والسياحة والدار. مع هذا الطفل الذي رفض الكلام إلا بعد أن ضاعفت ما دفعته بالأول, تعرفت على قصة التسول في سورية, فهو رغم كونه لم يتجاوز الأربعة عشر عاما إلا أنه يعرف القوانين المتعلقة ب (مهنته) فهي بالنسبة له مجرد صعود إلى سيارة الشرطة والمبيت في دار تشغيل المتسولين ومن ثم الوقوف أمام القاضي لأقل من دقيقة بعدها العودة إلى الشارع فالتسول من جديد. هذا الطفل يطلب ثمن ربطة خبز بينما تقوم امرأة بدفع رجل نصف عاري على كرسي متحرك أجريت له عددا من العمليات الجراحية طالبة مساعدة لهذا المريض, بعد توقيفها من قبل شرطة السياحة تبين بأنها تستأجر هذا المريض يوميا مقابل 500ليرة سورية بينما تجني أضعاف هذا المبلغ وقد يصل المبلغ إلى خمسة عشر ألف ليرة يوميا , ومن يزر دار تشغيل المتسولين والمشردين التابع لوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل يمكنه الوقوف على قصص حقيقية لم يبلغها خيال كتاب الدراما التلفزيونية والسينمائية بعد, فقصة صانع العاهات باتت من (الكلاسيكيات) التي لم تعد تغري أحدا بالدفع. بالفعل تمكن المتسولون من تطوير أساليبهم والتي يستطيعون بها الإفادة من ثغرات القوانين, والاستمرار في عملهم إلى مالا نهاية. في دار تشغيل المتسولين في مسرحية للرحابنة يقول الحرامي للمتسول- وهو يستعطفه أن يعطيه شيئا- : اذهب أنت رجل بلا كرامة. المتسول: أنا أفضل منك. الحرامي: أنا أحصل على المال بالقوة وهذه شجاعة . المتسول: وأنا أحصل على المال برضا الناس وبفهلويتي, وهذه سياسة. وفي دار تشغيل المتسولين يقول عبد الحميد سالم الاختصاصي الاجتماعي والنفسي بأن النساء المتسولات اللواتي يتم توقيفهن في الدار وهن كثر, يرفضن أي صفة لجرمهن سوى التسول, و يفرقن جيدا بين السرقة والتشرد وبين التسول, ويعتبرنها مهنة ومصدر عيش لهن دون أن يكون لديهن أي وازع أخلاقي أو قيمي, ويبلغ الحد أن لا ينظرن إلى التسول على أنه خطأ ولا يقتنعن بأنه سلوك سلبي, لهذا يعدن إليه في أقرب فرصة والتي قد تكون مجرد الخروج من قاعة المحكمة, وقد تبلغ الوقاحة بأن يستعطفن القاضي بثمن طعام أو دواء قبل أن ينطق بالحكم. لهذا قد لا تنفع الشعارات المكتوبة على جدار الدار (العمل نسغ الحياة) ببساطة لأن معظم من يأتي إلى هذه الدار ممن امتهن التسول ويعتبره عمل مثل باقي الأعمال, أو ببساطة لأنهم لا يعرفون القراءة, واقتراح افتتاح صفوف لمحو أمية المتسولين يبدو للبعض شبيها بدراما اللامعقول. العقوبات تتوزع مسؤولية مكافحة التسول على ثلاث جهات رسمية بشكل مباشر( وزارة الداخلية, القضاء, وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل). وإذا كانت وزارة الداخلية قد اكتفت بأن يتم توقيف المتسولين وتسليمهم لدار تشغيل المتسولين والمتشردين سواء من قبل دوريات الشرطة السياحية أو من غيرها, فإن القضاء يحمل العبء الأكبر من حيث المعالجة القانونية. يقول القاضي شريف حاج حسين بأن المشرع السوري أفرد للتسول والتشرد مجموعة من مواد قانون العقوبات(من 596-حتى 607) وعن كيفية تحديد من هو متسول يلفت القاضي إلى أن المادة 596 تعرف المتسول بأنه كل من كانت له موارد أو كان يستطيع الحصول على موارد بالعمل واستجدى لمنفعته الخاصة الإحسان العام في مكان إما صراحة أو تحت ستار أعمال تجارية عوقب بالحبس مع التشغيل لمدة شهر على الأقل وستة أشهر على الأكثر, ويمكن فضلا عن ذلك أن يوضع في دار التشغيل ويقضى بهذا التدبير وجوبا في حالة التكرار. وأضاف بأن القانون أقر بأن لاتنقص مدة الحجز في دار التشغيل عن ثلاثة أشهر أو تزيد عن ثلاث سنوات. ولكن هل تكفي هذه العقوبات لردع المتسول عن جرمه? يقول القاضي حاج حسين بأن العقوبة لم تكن حلا لهذا الموضوع إطلاقا, فنحن ننظر إلى وضع المتسول فإذا كان من المسنين نكتفي بتوقيفه يوماً أو يومين ثم نخلي سبيله. وكذلك هي الحال في دار تشغيل المتسولين حيث يقول مدير الدار محمد العمري بأن هناك صعوبة في إصلاح رجل بلغ الستين من العمر, أو امرأة تعمل في هذا المجال منذ عشرين سنة, مشيرا إلى أن هناك فئة من المجتمع أصبح التسول في عرفهم عادة لا يمكن الإقلاع عنها, إضافة إلى فئة امتهنت هذا العمل لأسباب اجتماعية كغياب المعيل أو أسباب صحية كوجود إعاقات بدنية أو ذهنية أو لأسباب اقتصادية كالفقر. ويلفت العمري إلى أن هذه الظاهرة الخطيرة تقع مسؤوليتها على المجتمع, ولا بد من تضافر الجهود بين عدة جهات لوضع الحلول المناسبة للقضاء على هذه الظاهرة. وقد أشار مدير الدار التي تبعد أكثرمن 25 كم عن دمشق إلى أنه قدم اقتراحات حلول للجنة المشكلة في مجلس الشعب لدراسة ظاهرة التسول منذ سنة ونصف إلا أنه منذ زيارة اللجنة الوحيدة لم يعد إلى الدار أحد منهم, بينما تقتصر اقتراحات مدير الدار على تطبيق القوانين الخاصة بمكافحة التسول. ملقيا اللوم على تساهل القضاء وهذا ما يؤكده الاختصاصي الاجتماعي في الدار عبد الحميد سالم قائلا بأن هناك صعوبة كبيرة في توقيف المتسول نظرا للإمكانات المحدودة, بينما هناك سهولة مفرطة في الإفراج عنهم. ويذكر سالم بأن دورية الدار استعانت بشرطة النجدة حتى تمكنوا من توقيف أحد المتسولين وإدخاله إلى الحجز, فهو يملك بنية جسدية قوية جدا يستطيع القيام بأي عمل, ويضيف بأن هذا المتسول يحصل يوميا على مبلغ كبير دون أدنى جهد, يبيع دعوات لله ويقبض ثمنها, هذه المهنة تؤمن له أعلى أجر دون مقابل, ويتساءل: كيف يمكن تغيير مفهومه للعمل, هل يرضى هذا الرجل بخمسة آلاف ليرة شهريا في حين يحصل على المبلغ ذاته في أسبوع أو أقل أحيانا?. ويشير عمال الدار المعنية بحجزهم لمدة أقصاها يومان قبل تقديمهم للقضاء مع دراسة اجتماعية بأن الكثير من المتسولين لديهم هواتف خليوية من أغلى الأنواع يتندرون على رواتب العمال المعنيين باحتجازهم. ويلفت الاختصاصي الاجتماعي بأن شكل العقاب يحول دون ربط العمل بالقيمة الاجتماعية, ودخولهم العالية يجعل من المستحيل تغيير نمط سلوكهم باتجاه إعطاء الاعتبار للمضمون الاجتماعي والأخلاقي للعمل. إثر الإعجاب الذي أبديناه بالنظافة والعناية بالدار من ورود وملاعب وقاعات تسلية وغرف نوم مجهزة بأسرة أوضح المدير إلى أن الدار ليست سجنا إنما هي مركز تشغيل للمتسولين عبر محاولة تعليمهم العمل في الزراعة أوالحلاقة أوالحياكة, وتذكر المشرفة على قسم النساء بأن إحدى المتسولات جاءت إلى الدار على قدميها طالبة توقيفها بجرم التسول لأن زوجها يجبرها على هذا العمل وهي تريد استراحة من زوجها ومن العمل. وعن هكذا قصص أورد عمال الدار بأن هناك العديد من الرجال يتزوجن أربع نساء ويجبرهن على العمل في التسول دون أي مهنة أخرى, فهي غير مكلفة وعقوبتها بسيطة, (اللي بتعرف ديته اذبحه). تسول الأطفال يلاحظ أن نسبة لا بأس بها من المتسولين هم من الأطفال دون العشر سنوات, وهذا يعود كما كشف لنا مدير دار تشغيل المتسولين إلى أن رفع سن المساءلة القانونية حتى العشر سنوات للأطفال بعد أن كان ثمان, ساهم بتشجيع أهالي هؤلاء الأطفال على تشغيلهم في هذه المهنة مع ضمان بعدم تعرضهم للتوقيف, فالقاضي لا ينظر بأي جرم يمكن أن يرتكبه من هو دون العشر سنوات, وكذلك ترفض دور الأحداث استقبالهم كما العديد من المياتم وهذا ما حصل أكثر من مرة في دار تشغيل المتسولين على ما يروي الاختصاصي الاجتماعي عبد الحميد سالم. تجارب وحلول ذات يوم استوقفني شاب أنيق يرتدي بذلة وكرافة قبالة مدينة المعرض بدمشق طالبا بلباقة متناهية مبلغا من المال ليتمكن من العودة إلى محافظته البعيدة مدعيا بأنه مقطوع من المال. بعد أيام روى لي صديق ذات الحادثة وكيف رفض أن يقوم بتوصيله إلى كراجات البولمان وأن يقطع له إلى المحافظة التي يريد كاشفا كذبه, ومثل هذه الحكايات تكاد لا تعد ولاتحصى, لأن المتسول يطور أساليبه كلما تكرر رفض تقديم المال, أما في كلية الآداب بجامعة دمشق فيأتي طفل متوسلا شراء علكة موجها الدعوات بالنجاح والترفع لكن عندما يفقد الأمل بالبيع يوجه الدعوات النقيضة. ومن أغرب أشكال التسول ذاك الرجل الخمسيني الذي كان يقف أمام باب جريدة الثورة طالبا من الزملاء صحيفة, وإذا ما أعطيته بالخطأ صحيفة اليوم السابق فإنه يعيدها مصرا على جريدة اليوم, ببساطة ليتمكن من بيعها لآخرين في مكان آخر. أحد المتسولين الذين استوقفتهم قال لي بأنه تجول في العديد من المحافظات السورية إلا أن أكثر المحافظات(بخلا ) هي حمص قائلا: ( ما حدا بيعطيك شي وبأحسن الحالات المطاعم تعطينا سندويش). وعند رواية هذه الواقعة لأحد الأصدقاء من حمص تبين بأن هذا الكلام دقيق تماما, فقد تمكنت هذه المدينة وبجهود جماعية من القضاء تقريبا على ظاهرة التسول ليس بالبخل طبعا, إنما بالإدارة حيث تقوم الجمعيات الخيرية بتقاسم تبني العائلات المحتاجة شرط عدم التسول, مع توجه شبه كامل بأن أفضل ما يعطى للمتسول هو إيصاله إلى أقرب جمعية خيرية, وهذا ما لا يناسب المتسولين غير المحتاجين. بينما في دمشق حيث النسبة أكبر مما هي في المحافظات الأخرى فقد قرأنا عن اجتماعات كثيرة بهذا الخصوص ولجان من مجلس الشعب وغيره, لكن كل ذلك زاد من نسبة التسول ولم يتم الحد منها أو القضاء عليها, فأعداد موقوفي دار التشغيل مرتفعة وخاصة المكررين الذين تم توقيفهم عدة مرات مما يكشف فشل أساليب الحل. هل الفقر هو السبب? تشير دراسة ميدانية لهيئة تخطيط الدولة والمكتب المركزي للإحصاء و الأمم المتحدة إلى أن خط الفقر بحدود1321ليرة سورية وبمعدل 44ليرة لليوم للفرد الواحد. أما المعايير العالمية لخط الفقر فهي تشير إلى دولارين يوميا للفرد, وبمقارنة بسيطة نكتشف بأن دخل أي متسول يتجاوز هذه العتبة ببساطة, وهذا يخرج المتسول في الشوارع من شريحة الفقراء. وباستطلاع سريع لمن هم بحاجة فعلية للدخل دون وجود المعيل المباشر نكتشف بأنهم قلة وربما يتستر الكثير منهم بالقليل دون الخروج للتسول. ومع هذا وذاك لا نعدم من هم بحاجة حقيقية ولا يجدون مصدر رزق لهم, لكن بالتأكيد ليسوا من متسولي الشوارع الذين نصادفهم يوميا هنا وهناك. التسول وثقافة العمل يحق للقارئ أن يتساءل لماذا قفزنا فوق كل مشاكل المجتمع وتوقفنا أمام ظاهرة التسول? ليس التسول كما يبدو لنا مجرد استجداء الإحسان العام من الناس في الشارع, إنما قد يمتد إلى حقول أخرى تنضوي تحت مفهوم التسول, وإن اختلفت المسميات, فماذا يمكن أن نسمي موظفا يحصل على راتب شهري دون القيام بأي عمل, ومع هذا لم نر أي من هؤلاء الموظفين يقيم وزنا لمفهوم العمل كقيمة اجتماعية وأخلاقية. في حين نلاحظ وجود شريحة كبيرة من الشباب, والجامعيين أيضا, يفضلون وظيفة براتب قليل على الأعمال الأخرى لأنها ببساطة دون جهد, وقد لا نصدق ترك إحدى الفتيات لوظيفتها لمجرد أنها لم تشعر بكون العمل ذي قيمة مطلقا فهو-كما قالت- مجرد جلوس خلف المكتب, بينما وجدت نفسها في العمل في مكان آخر. لهذا قد يستتر التسول تحت عناوين أخرى دون أن ننتبه له. وإذا ما أخذنا بالبحث والتدقيق في مفهوم ثقافة العمل, والعمل كقيمة, لغدت الكثير من الأعمال ليست أكثر من تسول. Maher_a@scs-net.org "> Maher_a@scs-net.org
|