ومجتمعنا الذي ينتمي للعالم الثالث لا يحتاج للعلوم التطبيقية فقط, فهذه يمكن شراؤها, على عكس الاسس الفكرية فلا تشترى ولا تباع, والتي نستعيدها بقراءة ارث اعلامنا قراءة معاصرة تصلنا بجذورنا وتبقي على هويتنا .
من هنا وقع اختيار الباحث(محمد قجة) على جزء هام من تاريخنا ( الصوفية والمتصوفة) والنفري احدهم فقدمه هذا الشهر في المركز الثقافي العربي بدمشق ضمن بحث جدير بالتقدير أوجز فيه بكل دقة واحكام عصره وتاريخه وأراءه وشخصيته مبتدئا من تساؤل:
- هل نعرف الكثير عن الفكر الصوفي ?
بعض الناس سوف يقولون: انه مرتبط بالهرب من الحياة, لكن هذا الهرب عن بعض المتصوفة له اسبابه السياسية كما عند الحلاج الذي كان معارضا سياسيا او اسباب اجتماعية كما عند النفري الذي كان معارضا لبنية الفكر الاجتماعي في عصره , لكن من ناحية اخرى يمكن اعتبار الفكر لكن من ناحية الصوفي شكلا من اشكال محاولة تفسير الحياة, هذا التفسير الذي بدأ مع الانسان منذ فجر التاريخ وقبل ظهور الاديان, لعل في التفسير اجابة على كيف خلقت الحياة, ومن خلقها , وكيف تطورت وماعلاقة الانسان بقوة الاله?
لذلك كانت مدارس مثل ( الافلوطينية والزرداشتية والارسطية و. .) ثم كان التصوف الاسلامي الذي تحدث عن ثلاثة اقانيم اساسية ( الذات الالهية, الكون, الانسان).
فالتصوف , اذا قضية فكرية فلسفية في المقام الاول من غير ان تنعكس بالضرورة على زهد بالحياة وهرب من اشكالها المادية اليومية.
ولنعد الى اوائل القرن الرابع الهجري / العاشر الميلادي الذي شهد نضجا في كل مجالات المعرفة والفكر والعلم , وعلى العكس كانت امور السياسة في اشد اضطراباتها حيث بدايات التمزق السياسي وتكاثر الدويلات .
وهناك على الشاطئ الشرقي لنهر الفرات قرب الكوفة مدينة صغيرة اسمها(نفر) ولد (محمد بن عبد الجبار بن .)ونشأ ولقب بالنفري نسبة الى مدينته, وهو احد فلاسفة التصوف الكبار, اختط لحياته نهج التجوال من مكان الى مكان مقتنعا بزهده في الحياة متخليا عن كل الاشياء والمظاهر المادية فيها وحتى عن الناس مكتفيا بتقربه من الله,زاده اوراقه ومحبرة وريشة يخط بها خواطره التي لم يهتم يوما لجمعها لذلك لم تنشر آراؤه ولم يحظ بشهرة فيمن حوله,لاسيما ان عصره قد اولى اهتماما كبيرا بالفكر الفلسفي والتفسير العقلاني اكثر من اهتمامه بالفكر الصوفي رغم وجود عملاق التصوف( الحلاج) في زمنه, بقي النفري يجوب الافاق الى ان مات 965م.
وقد حاول حفيده فيما بعد جمع خواطره في كتابين :
( المواقف)و( المخاطبات) ومع هذا لم يوف حقه من الدراسة والاهتمام في عصره وكاد الناس ان يتناسوه الى ان حظي بذلك بعد ثلاثة قرون على يد الفيلسوف المتصوف والشاعر عفيف الدين التلمساني الذي تناول كتابيه بالشرح والتفصيل, فأصبح كتاب المواقف بستمائة صفحة وهو الكتاب الصغير الذي لا يتعدى مئة واربعين صفحة احتوت سبعة وسبعين موقفا او وقفة.