وستبدأ في مطلع العام الجديد في مختلف أنحاء العالم نشاطات وندوات وفعاليات ثقافية ومسرحية تحتفي بتراث هذا الكاتب الذي أبدع لغة قصصية وأسلوباً مسرحياً استطاع التعبير والكشف عن جوانب من خصوصية التجربة الإنسانية. ويبدو احتفاء العالم بذكرى تشيخوف بعد 150 عاماً من ولادته حدثاً يتجاوز الطابع الاحتفالي ليكون كما تظهر المعلومات التي نشرتها الصحافة الثقافية العالمية عن برامج ومحتوى الأنشطة موسماً ثقافياً غنياً يعيد قراءة التراث الهام لهذا المبدع ولاستمرار تأثيره المتواصل والمتجدد في تشكيل ملامح الكتابة القصصية والمسرحية في جميع اللغات والثقافات.
وتحتل لندن مكان الصدارة بين العواصم الثقافية من حيث كثافة الفعاليات والأنشطة الفنية والثقافية التي تحتفي بتشيخوف ومن حيث الوقت المبكر لبداية الفعاليات. ففي الشهر الأول من العام الجديد ستبدأ مسارح لندن بتقديم عروض وندوات خاصة حول مسرح تشيخوف. ويشير هذا كما يؤكد النقاد في الصحافة الثقافية البريطانية إلى مسألتين هامتين. المسألة الأولى هو الطابع الكوني والإنساني لأدب تشيخوف بحيث يتجاوز الاحتفاء به هويته وانتماءه القومي والثقافي. أما المسألة الثانية فهي أن معظم الفعاليات التشيخوفية تتجه إلى استعادة الإنتاج المسرحي لهذا المبدع. ويشير بعض النقاد إلى أن سيطرة الطابع المسرحي على إحتفال العاصمة البريطانية بذكرى تشيخوف يشير إلى قضية تتعلق بواقع المسرح العالمي المعاصر. فحضور المسرح كمحور رئيس في هذا السياق يدل على حاجة المسرحيين إلى إعادة التأمل في علاقة العرض المسرحي بالنص في عصر تراجع فيه حضور النص المسرحي كأحد المكونات الأساسية لجماليات التجربة المسرحية. كانت العقود الماضية مساحة اتجه فيها المسرحيون في العالم عموماً إلى التجريب في تطوير ثقافة مسرحية متحررة من سلطة النص كإنجاز جمالي-أدبي مستقل. وتزامنت تلك المحاولات مع تطورات ثقافية جعلت من النص المسرحي عنصراً هامشياً في الحياة الأدبية، بحيث وجد المسرحيون أنفسهم في حالة جديدة نوعياً تتجلى في ضرورة العمل والتجريب في ظل غياب نسبي لتقاليد كتابة مسرحية معاصرة.
فهل يشير الاحتفاء النوستالجي لمسرحيي العالم بنصوص تشيخوف المسرحية إلى إحساس بفقدان النص؟! يتناول النقاد والمختصون هذا السؤال في سياق جدل بدأت ملامحه تظهر في الكتابات والمراجعات النقدية، ومن المؤكد أن هذا الجدل سيتطور في سياق الأنشطة المسرحية والثقافية التي ستشهدها العاصمة البريطانية خلال العام القادم. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن مسرحيات تشيخوف تمتلك خاصية فريدة تجعل منها مادة درامية نموذجية لمعالجة ذلك السؤال. فمسرح تشيخوف عالج قضايا وطرح أسئلة تتعلق بالتجربة الإنسانية في كل زمان ومكان. إن شخصيات تشيخوف رغم كل ما تمتلكه من خصوصية ومحلية تعبر عن قلق الإنسان في مواجهة الحياة بكل تناقضاتها التي تجعل من الحياة نفسها كفاحاً ملحمياً في مواجهة ضرورات اليومي ونوازع الحلم البشري نحو الفعل والتغيير. كل تلك الشخصيات الحالمة التي تسرقها الحياة في تفاصيل الثرثرة والتي تناضل بين صمتها وبين عجزها عن الفعل إنما هي صور حية وراهنة لمأساة الإنسان المتجددة في كل لحظة بصرف النظر عن كل الخصوصيات الثقافية والسياسية والاجتماعية للتجربة الإنسانية.
وفي هذا السياق للطابع الإنساني الكوني لمسرح تشيخوف تبدأ لندن احتفالاتها من مسرح هامبستيد Hampstead Theatre بمجموعة من العروض الندوات التي يشارك فيها مجموعة من المسرحيين والنقاد المتخصصين بمسرح تشيخوف. فبإدارة مايكل بننغتون و روزموند بارتلت سيبدأ مسرح هامبستيد بالمرحلة الأولى من موسم تشيخوف المسرحي بمشاركة فنانين ومخرجين ونقاد مثل إيلين أتكينز، سيمون روسل بيل، ويليام بيل، ويليام فينس، مايكل فراين، لين تروس وغيرهم.. وستنتهي احتفالات هذا المسرح بترميم بيت تشيخوف في يالطا الذي كتب فيه مسرحيتيه الشقيقات الثلاث وبستان الكرز. وبالإضافة إلى هاتين المسرحيتين، يتضمن البرنامج إستعادة لنماذج من إخراجات شهيرة لمعظم مسرحيات تشيخوف وعروضاً جديدة للنورس والدب ومعالجات وإعدادات مسرحية لبعض قصص الأديب الروسي.
وفي سياق الندوات التخصصية عن مسرح تشيخوف ستشهد لندن محاضرات وورشات عمل ومختبرات مسرحية ضمن محاور متعددة مثل: الصمت في مسرح تشيخوف، الزمن كمفهوم وإشكالية، اللغة في مسرح تشيخوف، شخصية الطبيب وتأثير مهنة الطب في أعمال تشيخوف، المرأة في مسرح تشيخوف، تاريخ إخراج مسرحيات تشيخوف، جماليات ودلالات الأصوات في العالم الدرامي عند تشيخوف، نص تشيخوف وآفاق الإعداد المسرحي المعاصر وتجارب القراءة الدراماتورجية لنصوص تشيخوف.. ويشير المتابعون إلى أن مجموعة من مسارح لندن وفرقها المسرحية ستقوم بالتنسيق مع المعاهد المسرحية والجامعات لتنظيم فعاليات تتجاوز الطابع النخبوي للحدث بهدف اختبار إمكانيات المسرحيين في صياغة عروض تجذب شريحة الشباب والطلاب من الجمهور.
وبالإضافة إلى البرنامج المسرحي المكثف أشار بعض المتابعين لسوق الكتاب أن كبريات دور النشر في أوربا ستقوم بإعادة نشر نسخ تذكارية للأعمال الكاملة لأنطون تشيخوف. وتتوقع الصحافة الثقافية في بريطانيا أن تحقق الإصدارات الإنكليزية الجديدة لأعمال الأديب الروسي أرقام مبيعات مرتفعة في إطار الاحتفال بذكرى ميلاده المئة والخمسين.
عن صحف التلغراف والغارديان والتايمز البريطانية.