التي قرأها في شرطها السياسي والاقتصادي. فحسيبة الفتاة ـ سلاف فواخرجي ـ تغادر دمشق مع أبيها الثائر صياح المسدي ـ طلحت حمدي ـ إلى الجبل للإلتحاق بالثوار بعد أن ماتت أمها، فالأب آثر أخذها معه لتعيش حياة الرجال على بقائها لوحدها، أو بقائه إلى جانبها متخليا عن رغبته وقراره بمقاومة الاستعمار الفرنسي. تتنكر حسيبة لأنوثتها مضطرة, ولكن هذا الأمر ينعكس على كامل حياتها، إذ تتغير نظرتها للمرأة التي في داخلها، بمعنى آخر يتشكل لديها وعي جديد مناقض ومخالف لوعي زمنها، الزمن الغارق في سلفيته، ومواضعاته الاجتماعية الذكورية، التي تتكئ على إرث ينبذ كل ما يتعلق بمنطق التحرر والحداثة، وهذا ما نلمسه أيضا مع شخصية خالدية ـ جيانا عيد ـ شقيقة زوج حسيبة، حيث لدى هذه الشخصية منطق متمرد رغم كونها أكبر من حسيبة سنا ولم تعايش تجربتها في الجبال، ولكن الكاتب أراد أن ينوع بحثه الاجتماعي ليكون أكثر واقعية ومصداقية. فالحراك المتعدد الأشكال لمجتمع فتي، ينطوي على انتقالات منمنمة تحمل أبعادا ثقافية وفكرية، تلعب دورا في توسيع مدارك الأفراد، وتؤثر على ممارساتهم وسلوكهم اليومي. وهذا ما يجعل من رواية حسيبة حاملا لواقع ملحمي يرصد موقف المجتمع الذكوري ليس فقط من مسألة تحرر المرأة، بل من تحرره هو ذاته، حيث تؤكد الرواية على تلك الممانعة والحركة الايديولوجية العكسية التي ترفض أي جهد حداثي،
متمسكة بأعرافها وتقاليدها ونواميسها، وما دل على ذلك هو عجز حسيبة عن إنجاب الذكور أو الاحتفاظ بهم، وهي لعنة تنشب أظافرها في أي منطق يسعى لتغيير الواقع، أو التمرد على السائد والمسيطر من أفكار، ولكن حسيبة استمرت في تمردها، ونالت نصيبها من العقاب وخسرت معركتها في النهاية. لقد سعى ريمون بطرس مخرج ومعد سيناريو الفيلم، إلى تكثيف الزمن الروائي الممتد طوال ما يقارب الخمس وعشرين عاما، ضمن محطات و مواقف درامية متسارعة، كان هدفها التركيز على خط الفعل المرتبط بشخصية حسيبة والذي بدوره هو الحامل الرئيسي لمقولة الرواية، تلك المقولة التي دفعت المخرج لإهمال عالم الرجال، وجعلت بطولة الفيلم بطولة نسائية جماعية نسبيا، رغم تميز دور حسيبة عن غيرها من النسوة. لم ينجح المنطق السينمائي والذي هو في حقيقته منطقا بصريا، في إظهار الفروق بين الممانعة والتسليم بالأمر الواقع، أي أن باقي النسوة في الفيلم عدا شخصيتي حسيبة وخالدية، لم يظهرن كنساء تقليديات، ولم يجر عرضهن كمنسجمات مع واقعهن، وبالتالي ضرورة وجود موقف ضمني من قبلهن يرفض أو يستهجن طريقة حياة حسيبة واختلافها عنهن، لما لذلك من ضرورة درامية واجتماعية وفكرية.
رغم اعتبارنا أن تسارع الأحداث مبررا من الوجهة الدرامية، إلا أن غير المبرر هو تجاوز مفاصل رئيسية في حياة حسيبة ذاتها، فبعد عودتها وأبيها من المعركة يعيشان لدى قريبهم حمدان الجوقدار ـ سليم صبري ـ الرجل الأرمل والذي يماثل والد حسيبة بالسن، يُعجب حمدان الأرمل والذي ليس لديه أولاد بحسيبة ويطلبها للزواج، وحسيبة وأبيها يوافقان، دون تردد أو تفكير بمسألة الفارق بالسن. ويتسارع الزمن لنرى حسيبة الحامل بحملها الثاني ولديها طفلتها الوحيدة زينب. يموت عمر بعد مولده بفترة وجيزة، ويفشل الزوجان بإنجاب طفل آخر ذكر، وهنا يتكثف المعنى بمدلوله الاجتماعي والأخلاقي، عبر رؤية يطلقها أحد الشيوخ، والذي يخبر حسيبة بأنها لن تنجب سوى البنات، كونها تشبهت بالرجال ليس في الجبل أثناء الثورة فقط، بل الأمر يتعلق ببنية شخصيتها التي تحمل أسلوب حياة مختلف عن العصر. وتسعى حسيبة إلى المهادنة مع شيخ البحرة، وهو تمثّل رمزي للعرف الاجتماعي الذي وهب عائلة الجوقدار ثروتها، كونها كانت أمينة على إرث الأجداد وكل أشكال الوعي السائدة. أما شكل المهادنة الذي مارسته حسيبة بحضور زوجها فهو تراتيل وقراءات تنتمي لفكر يخالف في جوهره المنطق الذي تعيش به حسيبة، أي أنها حاولت إرضاء زمنها بأدواته ذاتها دون تخليها عن ذاتها، وبمعنى آخر تحولها، أي فكر جديد بوسائل قديمة وهذا ما تسبب بتعنت شيخ البحرة واستمرار اللعنة. وما كان من حسيبة سوى التعنت والتحدي أيضا، وأمعنت في تفردها وابتعادها عن زمنها، على الرغم من أن الفيلم لم يسمح لحسيبة بالتعبير عن نفسها، ولم يمنح طريقتها بالحياة الفرصة لتكون أكثر جرأة، مما أفقد الفكرة والمقولة العامة للفيلم أحد معبراتها الرئيسية، وبدا الأمر وكأن حسيبة تعاقب على إثم لم ترتكبه، إذا ما استثنينا أمر ذهابها للجبال مع أبيها. ومن ثم يموت والدها بعيد ذهابه إلى فلسطين، فهو الثائر الذي لاتستهويه حياة البيع والمتاجرة، حيث يضطر إلى العمل في دكان زوج ابنته. ومن ثم يموت حمدان الجوقدار زوج حسيبة، بطريقة لامبرر درامي لها، كغيره من الشخصيات. ويتسارع الزمن وتصبح حسيبة مسوؤلة عن نفسها وعن ابنتها زينب، وتخوض معترك الحياة، وتمارس التجارة من خلال دكان زوجها، حيث ثمة فجوة زمنية لم يولها المخرج أي أهمية. وتكبر زينب وتبدأ معها مرحلة جديدة من الأحداث، وتظهر شخصيات جديدة، إذ يطلب أحد شبان الحارة من حسيبة، وهو من معارفها، أن تُخفي في بيتها صحفيا شابا هو فياض الشيزري ـ عامر علي ـ الملاحق بتهمة اغتيال عبد الرحمن الشهبندر، وخلال وجود ذلك الصحفي في منزلها تتعلق هي وابنتها زينب ـ كندة حنا ـ عاطفيا به، ويبدأ صراع حسيبة الداخلي مع نفسها، فهي تختبر العشق للمرة الأولى في حياتها، ولكنه عشق آثم أخلاقيا تجاه ابنتها، وتجاه شاب يصغرها بالعمر. حيث يختار فياض الفتاة، وتمتنع حسيبة أول الأمر عن إتمام الزواج كونه شخص فار ومتهم، ولكنها ترضخ لضغط ابنتها أخيرا، مغلبة عاطفة الأمومة على أحاسيس يرفضها منطق الحياة ويدينها.
ومع تطور الأحداث يضطر زوج زينب للجلوس في الدكان والعمل بها بعد الاستقلال وظهور براءته من دم عبد الرحمن الشهبندر، حيث يرفض العودة إلى الصحافة بإشارة خجولة إلى واقع القوة السياسية المهيمنة آنذاك وإيديولجيتها، ولكنه يأبى حياة الكسل الفكري والسياسي ويقرر المغادرة إلى فلسطين حيث الحرب الحقيقية والشريفة التي تستحق أرواح الرجال. وتبقى حسيبة مع ابنتها وحفيدها هشام ـ يامن عاقوـ وتبدأ رحلة معاناة جديدة مع الضياع، فحسيبة الصلبة تؤسس لمشروعها في إنتاج الجوارب وتنجح في تطوير عملها ولكنها تخسر ابنتها التي يصدمها غياب زوجها، الذي نعلم بأنه عاد سالما من فلسطين وهجر زوجته وابنه بطريقة غُيبت فيها أسبابه الحقيقية لهذا الهجران، وخسرت أيضا حفيدها الذي التهمته حياة الأزقة بغياب الرقابة المباشرة عليه. وينتهي الفيلم بخسارة حسيبة لمعركتها مع الحياة، وظهرت في آخر مشهد وهي تضرب رأسها بحافة البحرة، مما يلخص مقولة الفيلم بصريا، حيث صلابة الأعراف والتقاليد والموروث هي كصلابة الحجر. لعل التوصيف الوحيد الذي يمكن له أن يحدد طبيعة شخصيات الفيلم عدا شخصية حسيبة، هو بكونها أي تلك الشخصيات, كانت أدوات ووسائل مطواعة بيد المخرج لخدمة الفكرة العامة، أكثر منها شخصيات حقيقية، مما حرمها من التعبير عن نفسها بوضوح، فالقسم الأعظم من أؤلئك كان منمذجا اجتماعيا، أي جسد أنماطا بعينها، من مثل رجال الحارة،أما الباقي ومنهم والد حسيبة وزوجها وزوج ابنتها، فرغم الأهمية الدرامية لحضورهم إلا أنهم عوملوا ككومبارس، ولم يتم تسليط الضوء على خصائصهم الحياتية والإنسانية وحتى النفسية بشكل كاف، وهذا ينطبق بشكل كبير على شخصية حمدان زوج حسيبة. وأخيرا لابد من القول بأن ريمون بطرس قد استطاع إيصال وجهة نظره، ومقولة الرواية بشكل كامل ودون مباشرة او تقريرية، ولكن ما يؤخذ على عمل المخرج هو إهمال تلك الجماليات البصرية التى لاغنى للصورة السينمائية عنها، و التزامه الأدبي الكامل بمحتويات النص الروائي بما يشبه القدسية.