إن الواقع السياسي العربي يساوي الحالة الراهنة بالتوصيف من حيث دور الحاكم ومن حيث نمط السياسات الخارجية والداخلية المتبعة, ومن حيث الوسائل الإعلامية والتثقيفية المعتمدة في تأمين قنوات نقل هذا الواقع إلى المواطن العادي, والغائبان عن الواقع هما الجماهير بتكوينها الاجتماعي والتاريخي والمعنوي والثوابت مع ما تنتسب إليه من نسق القيم والمبادىء والأهداف العليا, وغياب هذين العاملين المؤسسين هو الذي يتيح الفرصة لهيمنة النظام السياسي العربي في الداخل حتى لكأن الساحات الداخلية العربية لم تعد تتوزع إلا على شروط ومواصفات النظام السياسي العربي سلباً وإيجاباً, ثم إن هذا الغياب لشرطي الجماهير والثوابت هو الذي يؤهل باستمرار لمزيد من الاغتراب عن القضايا القومية الكبرى, ولمزيد من الارتهان للأجنبي بمشاريعه وسياساته ومنتجه الاستهلاكي.
وتقديري أن التعامل مع الواقع العربي في غياب الشرطين الأكبر وحضور العامل المتصل بما تمارسه الأنظمة السياسية العربية وتوابعها , ذلك كله قد أدى إلى نتائج ثلاث ما زلنا نعيشها ونلمسها وكثيراً ما نكتوي بنارها..
1- أما النتيجة الأولى فقد تمثلت في هذا التوصيف القسري لمنطق الواقع وحقائقه وبدت الساحة من خلاله خالية تماماً ومستكينة تماماً لأهواء النظام ورغباته ومنطق تفاعله مع الإنسان والهدف المشترك, والنظام السياسي العربي بكل تصنيفاته وأطيافه هو هش للغاية في أحد جوانبه وهو مرتبك غامض ومحير في جوانب أخرى , الأمر الذي لا يريح الحاكم ولا يريح المحكوم معاً ولا يجدي في دحض هذه الفكرة تزييفات مضافة على شكل تحولات وإنجازات مادية وطوفان من النمط الخدمي والاستهلاكي كما هو واضح في كل المدن العربية ,إن الأصل هو الهوية التي تنتج نسق التعامل مع الأهداف وتؤسس لمنهج التحولات المادية على أرض الواقع وفي الأصل فإن الهوية تحقق وحدة الاندماج بالثابت والمبدأ والتوجه نحو المصالح المادية التي تقدم للبشر وهذا ما لا يتوافر في الواقع السياسي العربي الراهن.
2- أما النتيجة الثانية فإنما تشير إليها وتحتضنها خاصية التسيب التي ما زالت تستبد بمجمل اتجاهات ومستويات الواقع العربي , قضايانا متسيبة وقد اغتنمت الفرصة القوى الاجنبية وألقت القبض على هذه القضايا في مناخ التسيب نفسه, ومعاييرنا متسيبة أيضاً وهذا ما يعمق حالة غياب النقض واكتشاف الحقائق وما يؤدي في المحصلة إلى افتراق اعمق ما بين الجماهير والوقائع المطروحة عليها لأن هذه الحالة من التسيب لا تقدم سوى المواقف المرحلية والمرتبكة, ولا تعطي المدى لثبات في الأفق ويقين بخطوات المستقبل وإيقاع السياسات العربية عليه بدءاً من مقومات اللحظة الراهنة وهكذا, فإن الكتلة العامة للمشهد العربي تبدو وكأنها تستقبل كل شيء وترفض كل شيء لأن غياب المعايير ودرجة القياس فتح المجال أمام هذه الحالة والتي صار بموجبها التناقض والتبدل المفاجىء هو السمة الدارجة وهو الخط البياني المتأرجح انكساراً واستقامة, هبوطاً وصعوداً.
3- وتبقى النتيجة الثالثة وهي ذات منسوب تطبيقي في الواقع العربي تتمثل في نظام التخبط والاضطراب في تحديد الاولويات والضياع التام في مسألة الاصطفاف على المواقف المشروعة والخيارات الثابتة, وبهذا المعنى فإن الخلل البنيوي ما بين النظام السياسي العربي والجماهير والثوابت هو الذي أدى إلى ظهور هذه الاستطالة بالامتداد الرسمي نحو الغريب والغربي , وبدفع القوى والتشكيلات الاجتماعية والسياسية في الداخل العربي.
إلى أن تنكفى ء على ذاتها وتتمحور حول قضايا مضافة أو مفتعلة اعتقاداً منها أن ذلك هو الذي يؤكد ذاتها ويؤمن لها مشروعية التكوين والحركة والتفاعل مع الآخرين ومن الواضح إنه حينما تقلصت مزايا المنظور القومي والتضامن العربي وحقائق الصراع العربي الصهيوني وضرورة النهوض العربي المعاصر في عالم سريع متسارع , وإنجاز منظومة البناء والديمقراطية وكفاءة الإنتاج وكفاية المردود على الإنسان, حينما غابت أو تهشمت هذه المفردات صرنا في الداخل العربي نتوزع ونتشكل ونتناقض على محاور ذاتية وهمية, وبدا كما لو أننا ننقلب على قيمنا ذاتها كالدين والتاريخ والتعايش الحضاري والقيم المستقرة عموماً, وبعد ذلك كان المتاح الأسهل والأقرب في التناول هو أن ننجذب إلى ما افتعلناه ونتحد عليه , وهنا دخلت التناقضات الدينية والطائفية والمذهبية والإثنية إلى مساحات الواقع وخطوطه بكثير من الجهل وكثير من الإغراء,لعل المشهد العربي الراهن يقدم ذاته في مدى تأثير الخارج الغريب والغربي على الداخل العربي بقسماته وتقاسيمه, التناقض يملأ المكان والزمان العربيين في هذه اللحظة, وهناك على الدوام وسائل فنية وتكنولوجيا هائجة تغذي خيار الفتنة,تؤمن للاتهامات المتبادلة شروط اندفاعها وتغري من يكتب أو من يتحدث في الزمن الضائع أن يتمادى فالآخر كل آخر هو عميل وساقط ومجرم , والتهمة ترتد من حائط مسدود لآخر والكل يقع أسير لحظة الغياب أو التغييب عن الأصول وعن المدارات المشتركة الكبرى , والذي يظهر بالنظرة الإجمالية هو أن الواقع العربي يتشكل من خطوط هي النظام السياسي بمواصفاته المعروفة وهي تشكيلات في قاعدة الحياة وقد صارت تستقبل ما هب ودب من التيارات الخارجية والاندفاعات المصدرة والمعلبة والتي تجد على الدوام من يقتنيها ويسوقها ثم يجري عليها عملية التسويغ, وإن المشهد الواقعي واضح تماماً فنحن العرب في مستوانا الرسمي والشعبي ننقسم ونتقاسم على غير هدى ودون منطق وبلا اكتراث.