وأن يصنعوا قدرهم بأياديهم ويتحدوا لمواجهة أميركا,وأن ينشئوا مؤسسات عالمية جديدة مبنية على الأخلاق.
تفوق جيش أميركا في كل المعارك التي خاضها في العراق, ولكنه خسر الحرب. فالحروب تكسب بالسياسة لا بالعسكر, وبوش لم يفهم ذلك بعد, ولا يزال يتشبث بفرض التسوية السياسية بالقوة, واللجوء إلى القوة الساحقة لا ينشر سوى العنف والفوضى السياسية, فلا حكومة قادرة على بسط سلطتها على العراق, فما الهدف? كيلو مترات من الجدران الاسمنتية العالية تتلوى عبر بغداد لتفصل الأطراف المتنازعة عن بعضها بعضاً.
وتقطعت أوصال البلاد إلى مئة منطقة صغيرة, كل منها تقودها ميليشيا محلية, ما يدل على قيام حالة حصار, وليس حالة انتصار, ولذلك فإن الأميركيين لم يؤيدوا الاحتلال, إنهم حقاً واقعيون, يعرفون أن مخطط بوش لا يتقدم مثلما زعم نير روسن:(العراق أصبح صومالاً آخر).
في الوقت الحالي توصف رحى المعارك بين الفرقاء بأنها حروب طائفية, غير أن هذا التعبير مخادع, إذ إنها معارك ذات طبيعة سياسية, وكل الفصائل تتعارك من أجل ملء الفراغ الذي حدث بعد سقوط بغداد هو صراع على السلطة ويحلو لوسائل الإعلام أن تطور واقع الحال على أنه مواجهات بين عرب من انصاف المجانين, وصانعي موت وإرهاب, يتلذذون بفكرة قتل أبناء وطنهم, غير أن هذه المزاعم الإعلامية ليست إلا محاولة لشيطنة أعداء أميركا من العرب العراقيين, يمني بوش النفس بأن يتغير عقل ملايين العراقيين من الذين فقدوا أحبتهم أو أجبروا على الشتات خارج الوطن أو الذين يرون بلدهم وثقافتهم ينهبان نفطاً وآثاراً ويسحقان تحت أعقاب أحذية المحتل الأجنبي, غير أن رأس الحملة يتوه ويتخبط في خسرانه, ولن يكون جيش الاحتلال في يوم من الأيام مرحباً به في العراق. وبحسب تحقيق أجرته مجلة (لانسيه) الطبية البريطانية, أكثر من مليون عراقي لقوا حتفهم في الحرب, وأربعة ملايين آخرون قسم منهم نزح داخل العراق, وقسم آخر فر لاجئاً إلى بلاد أخرى, ولكن الأرقام التي لاتحكي لنا شيئاً عن حجم الكارثة التي سببها الغزو البوشي في العراق: أكبر كارثة إنسانية في الشرق الأوسط منذ النكبة عام ,1948 كل مظاهر مستوى الحياة تدهورت, مؤشراتها عمودياً نحو الحضيض, موت الأطفال, الأمن الغذائي, العناية الطبية, التعليم, الطاقة الكهربائية, الماء الصالح للشرب... إلخ, وحتى إنتاج النفط لا يزال أدنى مما كان عليه قبل الحرب, والغزو هو الحصار السياسي الأكثر إيلاماً منذ فيتنام, وكل شيء دنس حتى النهاية, فغرق قلب العالم العربي في الفوضى وغدت الآلام لا تعدّ ولا تحصى.
المسألة الأكثر خطورة هي إلغاء الآخر والباعث الرئيس للمقاومة والمعوق لأي تسوية سياسية ما دام الاحتلال هناك فإن المعارك ستستمر, والتأكيدات حول تغيير في المشهد السياسي حسب الزعم البوشي إنما هي مبالغ فيها. وليام أودوم الفريق المتقاعد علق على هذه النقطة في مقابلة مع جيم ليرهار ل(نيوز هور).
الحرب على العراق كانت حرباً خاسرة قبل أن تطلق الرصاصة الأولى, ولم تكن قط حرب الشعب الأميركي, والعراق لم يكن يشكل تهديداً على أمنهم وأمن أمتهم, وذرائع الحرب بنيت بأكملها على أباطيل, وهذه الحرب خطط لها من يعتبرون أنفسهم من المختارين وكذلك وسائل الاعلام لتنفيذ مشروع يميني متطرف همه الأزلي الاستعباد والاسترقاق وطرد السكان, لأنه بكل المقاييس يشعر بالصغار إذا اضطر إلى النظر باحترام لسكان الكرة الأرضية, والآن المهمة استنفدت أغراضها ولكن لا أحد يريد الانسحاب لكي لا يعترف بأخطائه, والمجازر تستمر دون هوادة.
إدارة بوش نهجت استراتيجية لاسابق لها في تاريخ أميركا, فقد قررت المضي في حرب كانت خاسرة أخلاقياً واستراتيجياً وعسكرياً, ولكن خوض حرب خاسرة له ثمن, فأميركا غدت اليوم أكثر ضعفاً سياسياً واقتصادياً وعسكرياً أكثر بكثير مما كانت عليه عندما قام بوش بانقلابه عام 2000 وقوة أميركا ومكانتها في العالم تواصلان تدهورهما ما دامت قواتها في العراق, ولعلنا أمام احتمال ضعيف بخروجها من العراق حيث الخيارات لم تستنفد كلها. وتدهور الحالة الاقتصادية للأسواق المالية تثقل كاهل الدولار الذي يتابع انخفاضه, ومتطلبات المجتمعات ورؤوس أموال الأسواق في ضائقة شديدة, والنظام المصرفي ونفقات الاستهلاك تنخفض, والإيرادات الضريبية تتقلص والولايات المتحدة تتجه نحو ركود اقتصادي مؤلم وطويل الأمد, وستغادر العراق بأسرع مما يتصوره العديد من الخبراء.
14/5/2008