كنت أنسج الأمسيات والأصباح تسكعاً وتفكراً في اللاشيء وكأنني أمارس ضرباً من الذهول عما كان وما هو كائن وما سيكون.
وفي صباح ضحيان خرجت على عادتي متسكعاً وحاملاً في مخيلتي قبساً من ذكريات جبل الملائكة محوماً مع رومانسيات نديم محمد في أشعاره وحكمة الشيخ أحمد حيدر ونظريته في وحدة الوجود وبدوي الجبل ورقي موسيقا قصيده الذي جعل منه واحداً من أعظم شعراء لغة الضاد في العصر الحديث.. وثم أخذتني أنفاس الصباح وظللني دفء الضحى لأجدني مستلقياً على المروج الدائخة في الضياء لأغط بعدها في نوم عميق.
وهكذا الفيتني أمام ذلك الكائن الأسطوري الذي أخذ دور البطولة في حكايا وأقاصيص العصور الغابرة.
إنه السندباد الذي روى لي قائلاً: كنت ذات مرة في رحلة مديدة في بلاد العجائب, فساقتني الأقدار إلى غابة هندية مستلقية على سفح جبل مترامي الأطراف, وفي أدنى السفح كان يجري نهر الغانج الذي اعتبره الهندوس رمزاً للطهر والقداسة.. ولهذا النهر ألف حكاية وحكاية. بيد أن هنالك حكاية اكتسبت شكلاً رمزياً عبر الأزمنة.
تقول الحكاية: كان يرقد قصر جميل على سفح ذلك الجبل المسكون بغابات موشحة بالاخضرار.. وليس بعيداً عنه تمكث أكواخ مهترئة يقال بأنها كانت معابد لكهنة الهنود, ثم غادرها الكهنة إلى أعلى الجبل, فأصبحت مأوى للفلاحين الذين تربطهم روابط الجد والعمل من أجل لقمة العيش, وكان يخيم على هؤلاء البائسين سلاماً داخلياً حقق لهم مصالحة طوعية مع واقعهم التعيس. إلا أن السلام لم يدم طويلاً, فسرعان ما طرأ على المنطقة حدث جلل سمم نفوسهم واستلب هدوءهم وانتزع سكينتهم خلال أسابيع معدودات.. وذلك بسبب فتاة في ريعان الصبا كان تقيم في ذلك القصر مع والدها الأمير الذي كان يحول بينها وبين الخروج من خدرها الحريري على الإطلاق.
لكن ما إن ترعرعت الأميرة وكعب نهداها حتى اكتشف استحالة الإبقاء على أميرته الصغيرة أسيرة قصره المنيف, وأنها بدأت تحمل بين جوانحها طاقات وثابة تدفعها إلى التحرر والانعتاق من قيودها, ثم ما لبثت أن طلبت منه أن يخلي سبيلها.
وهكذا شرعت بالخروج من خدرها ضحى كل يوم, ممتطية مهرتها الفتية متوجهة تلقاء نهر الغانج للاستحمام في مياهه المقدسة, مستهدفة تحقيق الطهر والنقاء من جهة وإفاضة حضورها الأنثوي من جهة أخرى, ومع تتالي الأيام تبدلت تطلعاتها من عوالم الطهر والنقاء إلى نوازع التيه والكبرياء, فشرعت في إبراز مفاتنها أمام شبان القرية إبان ورودهم النهر للاستسقاء.. فغدت معشوقة فتيان المنطقة وقبلة رجالها.. وهكذا انبثقت صراعات حادة على اكتساب ودها إلا أن هذا الصراع ما لبث أن أخذ أشكالاً همجية.
فكيف كانت عاقبة الأمور?! بكل بساطة, تحول ذلك الريف الفردوسي إلى جحيم يحرق الأخضر واليابس.
وهنا أمسك السندباد عن الحديث, ملقياً نظرات تأملية متنقلة بيني وبين جهاز الهاتف الخليوي الذي كان إلى جانبي قائلاً: لعلك أدركت ياصديقي ما أريد من حكاية الأميرة?!
فأجبته قائلاً: لعلك تستهدف القول إن الجمال الأنثوي بقدر ما هو سحر أخاذ بقدر ما هو فتنة وعذاب بلباس وردي حالم!!
فقال: ليس هذا أبداً, إنما أردت القول إن مدينتكم هذه انسلخت من بعدها الحضاري واغتالت المنطق الأخلاقي وانسحبت من رواقات الحكمة وتعرت من لوائح القيم كما تعرت فتاة نهر الغانج من رداء الحشمة.
وهنا صحوت على رنين الهاتف النقال يحمل لي نبرات صوت دافئ:
صباحك نور ياعزيزي..
فأجبته: وصباحكم نور على نور.. ولكن كيف تكون الأصباح نوراً في أزمنة الحروب الدائرة في كل مكان مولدة إرهاباً من فوقه إرهاب في مواقع كثيرة من قارات عالمنا الأرضي المنذور للفناء?!
ولست هنا في موضع الحسم بأن ما قصصته عليكم رؤية حق أو أنها مجرد أضغاث أحلام. كما أن حكاية فتاة نهر الغانج لا تستهدف إيقاظ صوت شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء ومقولته منذ ألف عام تقريباً.
الأرض للطوفان محتاجة
لعلها من درن تغسل
كما أنها لا تتطلع إلى رفع شعار العودة إلى الطبيعة على هدي نظرية جان جاك روسو في كتابيه (العقد الاجتماعي) و(أصل التفاوت بين الناس), وإنما تستهدف الحد من انسياق المدينة الحديثة في مسالك الإساءة إلى الطبيعة وتشويه الإنسان, والتطلع إلى عقلنة المدينة دون المساس بمنظومة العلمنة وتوجهها تلقاء الكشف عن القوانين الطبيعية والحيوية وتوظيفها لصالح الإنسان وتحقيق المناخ الصحي لقريتنا الصغيرة الأرض. فلقد أساءت التقنية الحديثة إلى أرضنا ومن فيها بما يدعو إلى التشاؤم. وإذا كانت مدارس علم النفس قد فصلت بين التشاؤم السلبي والتشاؤم الإيجابي, فإني لأستمسك بالمنحى الإيجابي لهذا التشاؤم, بالضبط كما أسدل الستار على الأحزان السوداء التي تؤدي إلى اليأس والقنوط وأخذ بتلابيب الأحزان البيضاء التي تسعى إلى إحياء أحلام مغتالة وتولد تباشير فجر مبشر بإشراقة شمس نهار جديد.
ولطالما حدثنا التاريخ عن أحلام ذبيحة ما فتئت أن استردت أنفاسها وغيرت بوصلة أحزانها من سوداء إلى بيضاء.. ولعل يابان الحرب الكونية الثانية التي أثخنتها أميركا بقنابلها الذرية مولدة الحرائق والموت والدمار, أفصح دليل على قدرة الأمم على (هدرجة) أحزانها السوداء وجعلها بيضاء ترسم الأمل لغد مأمول.
ونحن عرب القرن الحادي والعشرين, إذا كنا غير قادرين على توليف التقنية وتوجيهها على هدى مسارات العقل والحكمة لأنها لا تخضع لسلطتنا أو لأنها خارج جغرافيتنا, فلاشك أننا قادرون على الحد من استيراد (ترهاتها) إلى عقر دارنا وإيقاف زحفها إلى عقول أجيالنا.. ولعل هذا لا يقل أهمية عن توجهنا تلقاء التوحد والتطور والسعي اللاهث عروجاً على سلم الحضارة.