استعادت الأسرة في بلدنا اتزانها النفسي والعقلي, وعادت إلى أساليب الجد في التفكير والجدة في التدبير, بعد أن عصفت غواية الاستهلاك بالعقول والجيوب حتى الخاوية منها, وما عاد الناس يتلبثون قليلاً للتفكير بما يلزمهم دون أن يقلدوا الجيران والإعلان!
حسناً لم تفد كل الحملات الإعلامية والبرامج التثقيفية والتوسلات من المعنيين في إقناع الناس بضرورة ترشيد استخدام الماء, وبنفس الطريقة بذلت جهود هائلة من أجل النظافة العامة ثم الكهرباء, ولاحقاً من أجل خلق بيئة مرورية حضارية, لكن دون جدوى ملموسة, ولا تُنسى هنا مقولة أديبنا الكبير وليد إخلاصي بأن ما بات يقلقه بعد عمر طويل قضاه في التأمل والكتابة, همَّاَّن مضنيان هما توفير السكن للشبان, وحالة المرور الذي فاق في فوضاه كل منطق, وأنتج سلوكاً لا يمكن وصفه إلا بالهمجية حيث لكل سائق (عام وخاص) قوانينه الفردية, ومزاجه في التجاوز والتزمير والشتائم, وتجاوز الإشارات, والسير في الطريق الممنوعة واللامبالاة بالشاخصات, وماذا عن المشاة الذين يتنقلون كأنهم في غابة ظليلة المسالك لا في مدن دخل سكانها عتبات القرن الحادي والعشرين? بمعنى أن الوعي الجماعي الحضاري كان يسير في اتجاه, ونحن نسير في الاتجاه المعاكس.
أخيراً اضطر الكثيرون للاكتفاء بالماء المتوفر من الصباح حتى الثانية ظهراً, ولعلهم فهموا أخيراً أن هذا التقنين لمصلحتهم, حتى لا يموتوا عطشاً في الغد, وحين كوت فواتير الكهرباء جيوبهم بمبالغ تجاوزت راتب الشهر كاملاً, هرعوا إلى عداداتهم ليقرؤوا قيمة الاستهلاك, واسترجاع ما استخدموه خلال الدورة المعنية التي مرّ عليها شهور, فتذكروا الحمامات والثريات والشوفاج, والمصابيح المتروكة في كافة الغرف, والغسالة, وبدؤوا بسلوك مختلف لا يغفل عن إطفاء أي مصباح في غرفة فارغة! إذن لقد أصبح المرء في مواجهة مباشرة مع القواعد التي وضعتها الدولة, رغم أنها وضعت القوانين منذ سنوات, لكنه لم يكن يعير أذناً صاغية (كأنها وضعت في بلد آخر) فاضطر للاستفسار عن أسعار الاستهلاك, ومعرفة صلتها به, كما يفعل السائقون اليوم بالطلب الملحّ لكتيب قانون السير الجديد للاطلاع عليه بعد أن ربّتهم عصا الغرامات الباهظة, وقد أخبرني طبيب شباب خالف بعدم وضعه حزام الأمان أنه تجادل مع شرطي مرور أكثر من نصف ساعة حتى لا يحرر بحقه مخالفة تنقص من سجله نقطتين, وتأخذ منه ألفي ليرة وعرض عليه أن يعطيه ربعها, لكن الشرطي أصرّ على النصف وانتهت المساومة بالتراضي (لا النصف بل أقل ولا الربع بل أكثر), وأنا لم أؤلف هذه القصة للنيل من قانون المرور ومنفذيه, بل على العكس أقول براحة ضمير إن المذنب هو الطبيب الذي تفترض فيه الثقافة والسلوك الحضاري, وعدم السقوط في الخطأ ومعالجته بالخطيئة وكسر قواعد الأخلاق, وإن كنت من المؤمنين, في الماضي أن القانون (أي قانون) لا ينتج أخلاقاً, فإنني اليوم أغير قناعاتي وأقول إن القانون يستطيع تكريس القيم وحماية الآخرين من الذين تطربهم التعديات, لا الطبيب إياه تعهد لنفسه بألا يخالف بعد ذلك الموقف المذل مع الشرطي, ولأنني لمست بشكل عملي تغير سلوك عشرات السائقين العموميين (الذين لا أملُّ من الحديث معهم) فقد باتوا يشغلون العداد دون اختلاق الأعذار, ويتأدبون في التعامل مع الراكب, ومن أين أتى هذا? أليس من سطوة القانون الجديد وشعور كل معني بالسيارة مالكاً أو سائقاً أو راكباً بتهديد الغرامة?
نحن يا سادتي نعيش إشكاليات استخدام الطاقة على مستوى العالم بأسره: البترول (لا تنسوا بطاقات دعم مازوت التدفئة) والرياح والماء والشمس والغذاء, والكهرباء, نتصارع عليها, ونتقاتل, وتشن الحروب لامتلاكها, وتكتب عنها الدراسات, وتثار المخاوف, وتنشر الدسائس, لكن لا أحد يفطن إلى طاقة تستنزف بالرعب والخوف والقلق والترقب والحذر والجذب ,الرخي, وهي من أهم طاقات الكون على الإطلاق, لأنها بذاتها, المسيّرة والمستخدمة لكل موارد طاقات هذا الكون, وأعني الطاقة الروحية والنفسية, وهذه الطاقة الجبارة التي كانت وراء ابتداع استخدام الماء والضوء والزراعة, وخبز الرغيف والتنقل, إذا تناقصت, وهي تتناقص كل يوم