واستمرت حيثما تنقلنا بين دمشق وبيروت ومدريد ولندن, وإن كان لي أن أتحدث عن شخص نزار, فأظن أنه من سلالة ملكية, لا أمزح..
لأن كل تصرفاته مع كل الذين عاشوا إلى جانبه وعرفوه عن كثب, لابد أنهم شعروا شعوري هذا, كيف كان يتصرف كأمير بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى, ومع أنه كان يكره الألقاب, لكنه كان أميراً في الشعر, أميراً في العلاقات البشرية والإنسانية.
تبادلنا الكثير من الرسائل خصوصاً عندما كان وزيراً مفوضاً في مدريد, وفي فترة أخرى كان في جنيف وكنت مقيماً في لندن فكنا إذا لم نتصل ببعضنا هاتفياً نتبادل الرسائل, والتي للأسف الشديد فقدت بعضها وما زال لدي البعض الآخر.
وخلال هذه الفترة الطويلة من العمر أجريت معه أكثر من عشرين حواراً وربما أكثر.. نشرتها في الصحف والمجلات التي عملت فيها فزادت رصيدي الصحفي تألقاً, لأنها كانت حوارات تختلف كلياً عن أي حوار مع شاعر أو كاتب آخر.
ومن تلك الحوارات ألتقط لكم بعضها, سألته مرة: يُخيل لي أنك تعامل القصيدة معاملة العاشق للمعشوق.. كيف تفسر لنا هذه العلاقة? اسمعوا ماذا كان جوابه قال: العمل الجيد هو دائماً عمل من أعمال العشق, وهذا لا ينطبق على العمل الشعري وحده, بل ينسحب على كل الأعمال الحرفية, فالنجار لا يمكن أن يصنع كرسياً جيداً, إلا إذا دخل في حالة عشق مع الخشب, والمهندس لا يمكن أن يبني بيتاً جميلاً, إلا إذا دخل في حالة عشق مع الحجر.
وإذا كان الله قد صنع العالم بمثل هذا الكمال والتناسق, فلأنه كان في حالة عشق مع الشيء المخلوق, وفي القصيدة يحدث الشيء نفسه, إذ لا يمكن للشاعر أن يقترب من موضوعه الشعري إلا إذا كان في حالة عشق.
الورقة التي أكتب عليها جسد, لا يمكنني أن أُقيم علاقة ناجحة مع هذا الجسد, إلا في حالات العشق الكبير.
الورقة التي أكتب عليها أنثى, ولابد أن يكون بيني وبين هذه الأنثى حد أدنى من الحب ليكون الوصال ناجحاً.
وبكلمة أوضح, إن الاقتراب من القصيدة دون شعور بالحب.. هو نوع من الاغتصاب.
وعن علاقته بمدينة بيروت كتب لي مرة قائلاً: بيروت هي الشعر, أقول هذا بكل مسؤولية وموضوعية ودون أن أنتقص من فضائل المدن الأخرى, لكن تجربتي الشعرية أكدت لي أن ثمة مدناً تحرضك على كتابة الشعر, وأن ثمة مدناً أخرى تأخذ منك الشعر. ليس عندي تفسير لهذا الإحساس, ولكن تعاملي مع المدن أعطاني القناعة بأنني أكون في أحسن حالات الشعر في بعض المدن, وأكون في أردأ حالات النثر في مدن أخرى.
لقد أعطتني بيروت خلال عشر سنوات الجزء الأهم من شعري, فإذا أعطيتها كتاباً شعرياً (إلى بيروت الأنثى.. مع حبي).. فهذا أبسط ما يمكن أن يقدمه شاعر لمدينة أعطتنا الحب والشعر.. ولم يعطها أحد شيئاً.
وكتب لي في رسالة أخرى: (أنا لا أؤمن بالشعر السري, ولا بالذين يكتبون قصائدهم بالحبر الأبيض, ثم إن الشعر ليس نادياً خاصاً) لا يستطيع الدخول إليه إلا أعضاء مجلس الإدارة, ورجال السلك الدبلوماسي ولا يقدم العشاء إلا لمن يلبسون ربطة العنق السوداء.
أنا رجل مجنون أؤمن أن السماوات العربية كلها هي دفاتري. وربما كان غيري مكتفياً بسماع صوته في الحمام وراضياً أن يتألف جمهوره من زوجته وأولاده. أما أنا فطموحي مزعج, لأنني أكتب الشعر وعيني مصوبة على كل نافذة.. أو شجرة.. أو ذرة رمل.. في العالم العربي.
وسألته: لماذا تختار دائماً الجمهور العريض..?
فأجاب: بكل أنانية أجيبك.. إذا كان عليّ أن أختار, فإنني أختار البحر وأترك الساقية.. وأختار الغابة وأترك الشجرة.. وأختار العالم وأترك القبيلة. إن الشعر هو سفر إلى الآخرين, ومن لا يعجبه السفر فسيبقى طوال حياته في المحطة ينتظر قطارات لن تجيء أبداً.
وسألته في حوار آخر: الحب والموت كلاهما معاً يظللان معظم شعرك.. كيف تفهم هذا التضاد? فأجاب: ليس هناك تضاد بين الحب والموت.. إنهما وجهان لعملة واحدة. ففي كل حب قليل من الموت, وفي كل عاطفة عظيمة شيء من الفناء. وقد أدرك المتصوفون هذه العلاقة الحتمية بين الحب والموت, حتى صارت أمنيتهم الكبرى أن يفنوا في ذات المعشوق.
والحقيقة أن الحب لا يمكن أن يكون حباً كبيراً, إلا إذا اقترن بالتلاشي, والاندثار, والهلاك, وليس صدفة أن تكون أغاني الحب العربية ملأى بتعابير الموت والاستشهاد, فكأنما أدرك العرب بالفطرة أنه ليس من حب حقيقي.. دون موت حقيقي.
وربما كان اللقاء الجنسي بين الرجل والمرأة هو التجسيد الواقعي لحالة الموت التي يمر بها الجسدان في آخر مراحل الوصال.
وفي حوار شخصي سألته: لماذا خصصت للمرأة معظم مادتك الشعرية? أجابني:
لم أفعل ذلك بصورة إرادية.
استيقظت ذات صباح فوجدت امرأة تجلس على حافة سريري, وتقدم لي فنجان قهوة..
أرادت أن تتكلم فمنعتها من الكلام.
أرادت أن تقول لي ما اسمها.. فمنعتها من الدخول في التفاصيل.
وأرادت أن تذهب فمنعتها من الذهاب..
المرأة خرجت كسنبلة القمح من داخلي.. ولم تزل السنبلة تعطي مئة سنبلة حتى صارت حياتي كلها حقولاً لا نهائية من الحنطة.
فهل كنت تريد مني أن أعتذر عن كتاباتي عن المرأة?
طبعاً لن أفعل.
بل سأطلب منك ومن محبي شعري أن تعتذروا لي, ولها.. وللحضارة, لأن حبيبتي هي الحضارة..
هل أكون مغروراً إذا قلت لكم إن قصائد الحب التي كتبتها منذ خمسين سنة إلى اليوم كانت (مكيفات الهواء) التي قلبت مناخ الصحراء, وجعلت الأرض العربية قابلة للسكنى.
وكيف كانت تأتي القصيدة?
قال: كنت دائماً أشعر أن القصيدة لا تأتي إلا بعد انكسار العلاقة مع الحبيبة لا في بدايتها بل كنت في كثير من الأحيان أفتعل أزمة بيني وبين حبيبتي.. حتى إذا أخذت حقيبتها وانصرفت شرعت بكتابة قصيدة جديدة.
ليس هذا سادية أو انحرافاً أو جنوناً, لكنه شرط من شروط الشعر الذي لا يمكن أن يأتي من السلام المطلق, والطمأنينة المطلقة.
إن العنصر الدرامي عنصر هام من عناصر القصيدة وهو الذي يخرجها من حالة السكون إلى حالة التضجر, من حالة التعود إلى حالة التجدد.
والذين تعاملوا مع المرأة بكثافة, يعرفون أن المرأة التي لا تأتي هي أهم بكثير من المرأة التي تأتي, وأن حضور المرأة موجع أكثر من غيابها.
إن أكبر خطأ يرتكبه الشاعر هو تحويل أحد أحلامه إلى عادات يومية.. وتحويل المستحيل إلى ممكن.
ونعرف كما أعرف أن نزار قباني كان كثير السفر والترحال, وعن هذه الحالة يقول: الشعر نصفه سفر, ونصفه الآخر استعداد للسفر.
إن الشاعر المقيم تتشكل حوله طبقة كلسية تمنعه من التقاط الأصوات والأضواء الخارجية وبالتالي تعزله عن حركة العالم.
طبعاً, بإمكان الشاعر أن يتعرف على العالم عن طريق الكتب والترجمات, ولكن هذه المعرفة النظرية تبقى معرفة ناقصة, لا تكتمل إلا بمعرفة الشاعر للعالم معرفة حميمية وشخصية. لم يعد بإمكان الشاعر العربي أن يبقى في (خيمته) منتظراً أن يأتي العالم إليه.. بل عليه أن يذهب إلى العالم.
الشاعر الذي لا يسافر, يأكل من نفسه ويجتر معارفه الأولية, حتى يأتي يوم تنضب فيه ينابيعه ويموت عطشاً.