فخيم عليهم الحس التراجيدي لمصائرهم الشخصية, إذ عطبت أعماقهم فدفع الحنين إلى المكان الأول رغبة عارمة في استدعاء الذكريات الممزوجة بالتخيلات, فالمنفي (كما أراده عبد الله ابراهيم) يستعيد مكاناً على سبيل الافتراض ليجعل منه مركزاً لذاته ومحوراً لوجوده ,فيلوذ بالوهم الحالم بحثاً عن توازن مفقود, فيغيب المنفى مكاناً يعيش فيه الآن, ويحضر الوطن زماناً كان فيه من قبل.
الأوطان المتخيلة
د. عبد الله ابراهيم يعرف المنفي في بحثه الذي وقع تحت عنوان(السرد والمدينة المستعادة( المنفى) بوصفها يوتوبيا مفقودة) .فيقول:
المنفي هو الإنسان المنشطر بين حال من الحنين الهوسي إلى المكان الأول, وعدم القدرة على اتخاذ القرار بالعودة إليه, هذا ينتج عنه إحساس مفرط بالشقاء, لايدركه إلا المنفيون.
وعلى ذلك فقدتحدث د. ابراهيم عن كيفية بناء المنفيين لأوطان متخيلة في أذهانهم, وعن المدن المفقودة التي يستعيدونها بسبب الفراق الطويل ويقومون بتركيبها افتراضياً.
وقد اهتم الباحث بحنين وشغف المنفي بتلك المدن المفقودة مستنداً إلى رواية الكاتب كونديرا/الجهل/ مستمداً منها اشتقاقات لمصطلح /نو سكالاجك/ ويقصد به العودة المستحيلة أو الرجوع المعذب.
بلدي المخترع
والمقصود بالمنفي كما جاء في البحث هو من أبعد قسراً عن بلده وهو أيضاً الذي أنبتت صلته بعالم ترعرع فيه وعجز عن الانتماء إلى عالم أصبح فيه. وهذه القيمة الأساسية, قيمة الحنين والعذاب والألم والاشتياق والرغبة الجارفة والعجز, هي الخلفية التي حاول الباحث التوسع فيها لأنها تشكل المحفز الأساسي وراء اصطناع المنفيين لأوطانهم التي فارقوها. فيتطرق إلى الكاتبة إيزابيل إليندي وكتابها(بلدي المخترع) الذي كتبت فيه عن تشيلي( بلدها) وهي تقيم في اميركا, حيث أنها تخيلت بلداً يختلف عن البلد الذي قرأناه في الكتب المدرسية. فالبلد الذي تخيلته إيزابيل بعد ثلاثين عاماً وأنشأته عبر هذا الكتاب( بلدي المخترع) أخذه الباحث مجرد مثال لكثير من المدونات في الثقافة العربية والثقافات العالمية منهم طارق علي- الطاهر بن جلون , أمين معلوف , وعدد كبير من الكتاب منهم ماركيز, ممن تركوا أوطانهم وعاشوا في أوطان بديلة.
أدب المنفى وما يميزه
يجزم الباحث بأنه لايوجد أدب في عصرنا الآن أكثر حيوية من أدب المنفى الذي يبهر العالم من الصين إلى البرازيل حيث نجد كبار الكتاب الذين انزرعوا في ثقافات وطنية ومحلية معينة ثم اقتلعوا وذهبوا إلى حضارات أخرى , ويؤكد أن هذا الأدب يحدث بمكونات متناقضة فيه دفء السرد وحرارة الرؤى.
ويتميز أدب المنفى بأنه مزيج من الاغتراب والنفور المركب, كونه نتاجاً لوهم الانتماء المزدوج إلى هويتين , أو أكثر , ثم في الوقت نفسه عدم الانتماء لأي من ذلك بل إنه أدب يستند في رؤيته الكلية إلى فكرة تخريب الهوية الواحدة والمطلقة , وبصفته تلك فهو أدب عابر للحدود الثقافية, والجغرافية, والتاريخية , ويخفي في طياته إشكالية خلافية, لأنه يتشكل عبر رؤية نافذة, ومنظور حاد يتعالى على التسطيح , ويتضمن قسوة عالية من التشريح المباشر لأوضاع المنفي, ولكل من الجماعة التي اقتلع منها, والجماعة الحاضنة له, لكنه أدب ينأى بنفسه عن الكراهية , والتعصب وهو يتخطى الموضوعات الجاهزة والنمطية , ويعرض شخصيات منهمكة في قطيعة مع الجماعة التقليدية , وفي الوقت نفسه ينبض برؤية ذات ارتدادات متواصلة نحو مناطق مجهولة داخل النفس الإنسانية.
قضية الانتماء بمعناها الجديد
يقول الباحث إن إليندي ومن سبق ذكره من أدباء وأكثر يثيرون قضية الإنتماء بمعنى جديد, ويثيرون قضية الهوية وتخيل الأوطان, وهو أمر على غاية الأهمية , لأن المهاجرين والمنفيين والنازحين لم يعودوا أفراداً, إنما هناك ظاهرة رافقت الحقب الاستعمارية وعقبتها إلى الآن وهي ظاهرة النزوح,واستعارة اللغات واستعارة الافكار.
ويتحدث عن ظاهرة النزوح والمنفى والهجرة يصفها بأنها ظواهر فردية منغمسة في ظواهر اجتماعية كبرى.
أدب المنفى واليوتوبيا
في اشتقاق خلاصة من البحث عن المنفي وأدب المنفى:
يختار الباحث نقاداً ومفكرين وأدباء عالجوا من مواقعهم الفكرية والأدبية بدرجات متباينة ظاهرة:(كيف يرى المنفي موقعه والعالم الذي فيه والعالم الذي اقتلع منه).
ادوارد سعيد ثم حليم بركات ثم هشام شرابي وعبد الرحمن منيف وعبد الرحمن الربيعي , على اعتبار انهم مجرد عينة ليس لأنهم أهم من غيرهم, ولأن ظاهرة أدب المنفى تكرس على أشد ما يكون التكريس وضوحاً في السيرة الذاتية للمنفيين, ذلك أنه في السيرة الذاتية والسيرة الروائية يوجد نوع من التمثيل يختلف عن التمثيل التخيلي , أيضاً يرى الباحث ان السيرة الذاتية والسيرة الروائية هما أكثر الأنواع الأدبية قدرة على تكثيف هذا التوتر الذي يحتدم داخل المنفي, وقد لوحظ ان هؤلاء وغيرهم من المنفيين لايكتبون عن البلاد التي هم فيها بل يكتبون عن البلاد التي نزحوا منها.
في أدب المنفى تحدث الباحث عن مدن مفقودة أشبه بأدب(اليوتوبيا) كما قال: على اعتبار ان المدن في هذا الأدب أشبه ما تكون متخيلة لأن الشغف بها حال دون الاهتمام بالحقائق ولاتوجد حقائق في أدب المنفى ولا حتى في أدب اليوتوبيا في البحث الذي أخذت منه هذه الخلاصة تبين ان الدكتور عبد الله ابراهيم أراد ان يثير الانتباه حول هذه الظاهرة وقد دعم بحثه واسنده إلى النصوص المفصلة والكاملة.