الأميركية السيد بيتروود الأميركيين بمختلف أطيافهم لرفض الانسياق للغضب, وألا تغريهم اللذة المؤقتة التي قد يحسونها عندما يفرغون شحنة غضبهم في الآخرين, لأن ذلك كما يقول مؤلف الكتاب- وود- كفيل بتسميم العلاقات داخل المجتمع الأميركي, بما قد يترتب عليه من آثار اجتماعية بالغة السوء.
وكما هو معروف,فإن الانثروبولوجيا( هي دراسة عادات ومعتقدات وأصول وتطور الجنس البشري). يطرح المؤلف عدة أسئلة تتمحور حول سخط وغضب الأمة الأميركية من هذه الأسئلة ما الذي يجعل المواطنين الأميركيين العاديين غاضبين على هذا الشكل? ما الذي يجعلهم على هذا القدر من العصبية والعدائية التي أصبحوا يتميزون بها حالياً? لماذا يطلق الساسة الأميركيون هجمات إعلامية استباقية ضد خصومهم لمجرد الظن أنهم يكنون لهم العداء أو يشكلون تهديداً لهم? لماذا ينخرط الجميع في بث سموم الكراهية دون أدنى شعور بالخجل أو وخز الضمير في البرامج الحوارية في محطات الإذاعة وشاشات التلفاز? لماذا يسعى الصحافيون إلى تصفية حساباتهم مع شخصيات عامة من خلال اتباع وسائل مشينة بهدف الاغتيال المعنوي لتلك الشخصيات وتشويه صورتها تماماً?
هذه الأسئلة وغيرها الكثير, شغلت بال المؤلف لزمن طويل. فهويعقد في كتابه هذا مقارنة بين ما أصبح عليه الأميركيون حالياً, وماكانوا عليه في الماضي. وفي هذا الإطار, يقول حول ذلك, كان الأميركيون في الماضي يختلفون مع بعضهم بعضاً حول الكثير من القضايا التي قد تقل أو تكثر, تحتدم أو تهدأ, تتسع أوتضيق. ولكنهم كانوا يتقبلون تلك الخلافات ويسمع كل منهم وجهة نظر الطرف الآخر بصبر وأناة حتى ينتهي من كلامه ويقدم الأدلة التي تثبت وجهة نظره بعد شرحها, فإن كانت تلك الأدلة مقنعة, اقتنع بها,وإذا لم تكن,أعلن للطرف الآخر بهدوء أنه غير مقتنع بما يقول, فلا يغضب الآخر, ولايرد عليه رداً جافاً ولايكون لذلك الخلاف في الرأي أي أثر في إفساد الصداقة بينهما إذا ماكانا صديقين أو زميلي مهنة و احدة. وكان هذا ينطبق على الأفراد كما ينطبق على الجماعات وعلى الأحزاب والأندية والمؤسسات جميعاً. بمعنى آخر, كانت مساحة التسامح, والصبر والقبول بالاختلاف واسعة في المجتمع الأميركي ولم يكن هناك أحد يدعي احتكار المعرفة أوالصواب.
ويستمر المؤلف في شرحه الشيق, فيقول: إن ذلك هو ماكان يحصل في الماضي, أما الآن فإن الأمور انقلبت رأساً على عقب: فنحن نريد أن نمحو آراء الآخرين, بل أن نمحو أصحابها إذا ماكان ذلك ممكناً. وتغيرت طبيعة وشكل مناقشاتنا وحواراتنا العامة, فأصبحت تنحو تدريجياً لأن تكون محكومة بتعبيرات قاسية تشير إلى نوع من الغضب غير المتحكم فيه.
ويؤكد مؤلف الكتاب- وود-إن أميركا مرت عبر تاريخها بفترات مثل هذه, لكن الأمور لم تصل إلى ماوصلت إليه حالياً. وهوهنا يستخصر فترة( المكارثية) التي شنت فيها لجنة السناتور- جوزيف مكارثي- حملة من التخويف والرعب, وأشاعت جواً من عدم التسامح وضيق الأفق في طول أميركا وعرضها, لكنه يقول مع ذلك, إن الأمور لم تصل إلى الحد الذي وصلته حالياً. كما أن مستوى الغضب لم يكن مثل ماهو عليه الآن.ففي الظرف الراهن, تقف الولايات الحمراء في أميركا ضد الولايات الزرقاء, ويقف اليمين في مواجهة اليسار, ويقف المحافظون في مواجهة الليبراليين ويعيش الأميركيون في مجتمع منقسم وغاضب. وهو يحذر من ظاهرة أصبحت واضحة, وهي أن الثقافة الشعبية السائدة حالياً أصبحت تبرر الغضب من خلال التركيز على إبراز صور رجال تعرضوا لأشد الضغوط ودفعوا لحافة الغضب, ومن خلال تشجيع الناس على الاعتقاد بأن بعض الأفكار التي يعتنقها الآخرون هي مجرد أكاذيب وأباطيل وأنها تمثل مؤامرات سرية ضدهم.
وينبه المؤلف إلى أن الأمر الأكثر إثارة للانزعاج, هو أن كثيرين أصبحوا يقبلون بالفكرة القائلة إن انتشار الغضب في حياتنا العامة ليس بالشيء السيىء في حد ذاته, بل ربما يمثل ظاهرة صحية. ووصل الأمر إلى حد أن البعض أصبح يعتقد أن كبح جماح الغضب هو الشيء السيىء, حيث قد تترتب عليه آثار نفسيه وجسديه مرضية وأن الأفضل هو أن يترك المرء العنان لنفسه للتنفيس عن غضبه بصرف النظر عن الطريقة التي يتم بها ذلك, وبصرف النظر عن الأذى الذي يمكن أن يلحق بمن يطوله رذاذ ذلك الغضب المتطاير.
وبعد عرض كاف للمظاهر الدالة على تفشي ثقافة الغضب في المجتمع الأميركي, يقوم المؤلف بتقصي جذور تلك الثقافة وأسباب انتشارها في الفضاء الاجتماعي والسياسي في الولايات المتحدة, ومنها وصفات العلاج, والنصائح التي يقدمها أطباء الأمراض النفسية والعصبية لمرضاهم, لمساعدتهم على الخروج من الحالات التي يعانونها, والعدائية والرغبة في القتال اللتين تسمان العلاقة بين الجنسين في أميركا حالياً, والهجمات التي يشنها دعاة الفصل العرقي, ودعاوى المتطرفين من كافة المعتقدات والمذاهب باختصار, يقدم لنا مؤلف الكتاب تشريحاً دقيقاً وصادقاً, إلى درجة قد تصدم الكثيرين, لظاهرة غدت ملحوظة في المجتمع الأميركي. لكنه يدعو في الوقت نفسه, إلى استحضار التقاليد القديمة التي عرف بها الأميركي, وهي تقاليد الطيبة والصبر والتسامح وقبول الآخر والاعتدال التي ساعدت على بقاء أميركا وعلى وصولها إلى ما وصلت إليه من مكانة وسمعة طيبة لدى كثير من شعوب العالم في فترات ماضية, وذلك قبل أن تتكفل التغيرات التي مر بها ذلك المجتمع بتغيير هذه الصورة, ليس في أعين شعوب العالم, ولكن أيضاً في أعين كثيرين من المفكرين وأصحاب الضمائر داخل المجتمع الأميركي نفسه.