اكثر من حكاية صغيرة ولكنها حكاية جميلة وشيقة.
في البداية لأن مبدع مسرحية ( بيرجينت) العبقري كان على صواب في شطحته الخيالية, ومن ثم لأن مقولته( على العكس ) التي كان يردد استخدامها كانت تلخصه بأكمله, وهو المكتشف لأغوار التناقضات البشرية, المنقسمة ما بين شدة التعصب في مسرحية ( براند) والاوهام في (بيرجينت) وبين الجليد و الحريق, وبين قمة الجبال والاعماق المظلمة في الخلجان الضيقة.
توفي المسرحي العالمي النرويجي الاصل هنريك ابسن قبل قرن من الآن ويصادف هذا العام ذكرى مرور عام على وفاته التي جاءت بعد 40 عاما على وفاة عملاق المسرح تشيخوف.
وبتلك المناسبة يعيد ( البلياد) نشر مسرحيات ابسن, البالغ عددها 17 عملاً مسرحياً و 13 رائعة له تلك المسرحيات التي لم تتوقف منذ قرن عن عرضها على خشبات المسارح في كافة انحاء العالم ومن اشهرها ( بيت الدمى) او هيداغابلر, مروراً بأعماله مثل (براند)و( ايوفل الصغير).
وفي رسالة وجهها ابسن الى صديق له عام 1870 , في الوقت الذي كتب فيها مسرحية (براند ) يقول له فيها( كان امامي على الطاولة باستمرار عقرب وضعته في كأس نبيذ فارغة, ومن وقت لآخر كان يصاب هذا العقرب بالمرض, رميت له قطعة فاكهة طرية, وعليها ارتمى بهيجان من اجل تفريغ سمه فيها, ومن ثم استعاد عافيته, حبذا لو لنا شيء آخر مثل هذا النوع, نحن معشر الشعراء!).
لم ينقطع ابسن عن مطاردة الحقيقة الجارحة والمواقف الصعبة الحرجة من خلال تعرية قلب الانسان بوضوح وصفاء حتى اطلقوا على مسرحه( مسرح الصراع) وذلك السعي الى ضرورة فرض الحقيقة المتجذرة في مسرحه وهي التي جعلت من مسرحه الآثير على قلوب الناس منذ قرن خلا تجسده شخصيات غريبة الأطوار من لحم وشحم , تجعل المشاهد يتعلق بها وكأنها شخصيات حقيقية تعيش معه, وظلت حية على المسارح. انه سولنس البناء والذي بدلاً من ان يشيد قصور السحاب كما تحلم بذلك هيلدا ينسحق في أسفل البرج الكبير الذي بناه.
وبوركمان المصرفي المنحط الذي ضحى بالحب على مذبح الرغبة في امتلاك السلطة والقوة. وبيرجينت الاسطوري الرائع الذي (ىسير مستقيماً في خط منحنٍ) في استعارة توضح العمل.
وكذلك الشخصيات النسائية الخالدة, فقد رسمها ابسن من اجمل الصور التي رسمت لهن, بحيث حلمت كافة الممثلات العالميات بتجسيد شخصيتهن على المسرح , منها شخصية نورا مسرحية (بيت الدمى) او هيدا غابلر المدمرة المخربة او الغامضة المائية هيلين الفينغ في مسرحية ( الاشباح) او ربيكاويست في مسرحية روزمير شولم او اليدا وانقل في مسرحية (سيدة البحر) .
وفي شخصية ايوفل ويهدفايغ ايكدال من مسرحية ( البطة المتوحشة) يسبح ابسن من خلال الطفلين المضحيين , المؤثرين في بحر مسألة الشعور بالذنب, والارث العائلي اثنين من المواضيع المفضلة لديه.
لا شيء في (مسرح الصراع) لأبسن يثير الملل او الضجر, ويعلق أحد الدارسين له بالقول انه (القرار الصارم بانتزاع السر من الحياة) و( يمنحنا الشجاعة) وآخر عمل له عرض على خشبة المسرح عام 1899 انتهى في فصل حول امرأة ثملة من الفرح بحريتها التي استعادتها واتفاقها مع هذا العالم وانعتاقها من القيود التي فرضتها على نفسها تقول : انا حرة !حرة! حرة?! انتهت حياة الاسر! كعصفورة أنا حرة,! حرة!).
هكذا اعطى ابسن الكلمة الاخيرة الى امرأة والى الحياة امام الفن .
أبسن الانسان كالقديس, البرجوازي الجدير بالاحترام, المتعلق بقيم الشرق الصارم, الوحيد, كان مطبوعاً بجميع تلك الاخلاق الملتصقة بأهل سكان الشمال ولكنه في اعماله كان يبدو فيه العكس كان فيها المتمرد محطم القواعد (والدعائم) الدستورية للمجتمع حماس كبير للحرية وفاء لنفسه, وتنديد بالمطلق .
كل انسان مصاب بالارهاق من ( نضاله ضد خرافات النفس) والدعوة الى الفرح والشمس والى الحياة الهانئة الراقصة مثل فراشة الصيف.