كان الشاي في الماضي, إلى عهد أقرب من قريب, شاياً أحمر, أو بلا صفات, شاياً فحسب, فتن به قراء تشيخوف ودوستوفسكي, لأنهما أبدعا في وصف طقوس تناوله في المجتمع الروسي البارد, أو رافق موائد فقرائنا في فطورات الصباح المنزلية, أو عمال ورشاتنا في استراحاتهم الحميمة, طلباً للسكر, وليس للنكهة وحدها! ما كنا نسمع بالشاي الأخضر قط, اللهم إلا في مغربنا الشقيق, بحيث صغرت كؤوس تقديمه, وتجملت بالزخارف البديعة, هي وإبريقه الفضي, الذي يشبه سراج الحكايات, وفيه يشتد غليان الشاي, مع النعناع الأخضر (رغم توصيات خبراء الغذاء بنقع الأعشاب لابغليها)! ما كان الشاي في شرقنا العربي ضيافة لائقة لزائر خاص أو متميز, بل هي القهوة الكثيفة الغالية, التي يعاب غيابها عن الجلسات واللقاءات!
واستأثر أهل دمشق بعادة شرب الشاي بعد الغداء, حتى انصبت عليهم تحذيرات فقدان الحديد من الوجبات التي تناولونها, إذا ما أتبعوها بشرب الشاي ثقيلاً كان أم خفيفاً, ولا ندري نسبة من أقلعوا عن وضع إبريق الشاي على النار الخفيفة ريثما يتناولون غذاءهم!
تبادرني السيدة العصرية بأنها أتمت تحضير كل ما يلزم لوليمتها عدا الشاي الأخضر, وهي تبحث عن صنف محدد, هو المنكه بالليمون, فإن لم تجد, فلا بأس به, منكهاً بالورد, ولا يجوز أبداً أن تخلو وليمتها من المشروب (الكلاس) حتى لا ينالها انتقاد من ضيوفها الذواقين, المتطلبين! ثم تنبري, تنتقد بشرة يدي التي قست من الطقس, وقلويات الصابون, ولا تحفل بحزني على صابون الغار السحري, الذي دخله الغش, هو الآخر, بل تنصحني بالصابون المصنع بالشاي الأخضر, الذي يعيد (يعيد ولا يحافظ) الشباب إلى البشرة, ويجعلها نضرة, كحرير القز الطبيعي (أهناك حرير طبيعي في هذا الزمن?)..
أفتح التلفزيون لألتمس صوتاً إنسانياً, في البيت الفارغ دون اضطرار للجدل, فيخرج أحدهم في أكثر الفضائيات العربية رصانة, يقدم فيلماً عن معمّر ياباني, سره في شرب الشاي الأخضر في موعدين: العاشرة صباحاً والثالثة بعد الظهر, ويقطع إعلان انسياب البرنامج, ومجدداً يحضر الشاي الأخضر, على موائد شبان سعداء, معافين, يقفزون قفزاً عن الأرض, ثم في شامبو صبايا كحوريات الزبد والماء..
بات الشاي الأخضر اكتشاف العصر العبقري, ومن لا يصدق ذلك فليسمع النساء المهووسات بصحتهن, وصباهن وجمالهن المقاوم لقوانين الزمن, فهن العارفات بأنه سر الشباب والعافية وطول العمر, بل هو دواء لكل داء, ويحمي حتى من السرطان! وهذه اللوثة, تستجر إن كنا نسينا لوثة الحبة السوداء, وفول الصويا, والنسكافيه, والكافي ميت, وكل الخفي, الخفي, من ترويج الشركات والتجار والمستفيدين من بيع السلع, فهم الذين بدلوا عاداتنا الغذائية التي اعتمدت تاريخياً على القمح والبقول وزيت الزيتون وأعشاب الأرض, وأزهارها البرية (على مسمعي, قال دبلوماسي عربي وهو يتناول خلطة الزهورات الشامية, ورائحتها الزكية تملأ فضاء المكتب: هذه عبقرية سورية في التعاطي مع الطبيعة) وكغيره من الزائرين والضيوف بات يفضل هدية من بلاد الشام, لا حلويات شرقية ولا موالح مشكلة, من أرض الحياة والتنوع, بل مليسة وبابونج, وزعتر بري وختمية, وغبار طلع الصفصاف..
لم لا يدعوننا وشأننا, نحن المستهلكين, لم لا يتركون لرغباتنا وأجسامنا, وحاجاتنا أن تتناغم مع الطبيعة ومنتجاتها? لم يلاحقوننا بحملات ذكية, منظمة بحيث لا نرى أشباحهم على موائدنا, وفي جلساتنا? ويزداد خدرنا وغفلتنا, وهم يختلسون من جيوبنا ما لم يقسم لهم, لأن أبعد مفاعيل الإعلان أن نستلب ونحن سعداء, وبعض السعادة تأتي في غيبوبة العقل!.
أيتها السيدات, أيها السادة, تناولوا الشاي الأخضر, بكل النكهات, لكن لا تتفجعوا إذا لم تجدوه, فما من مادة في الطبيعة هي إكسير الحياة, وسرها إلا الماء, الذي جعل منه كل شي حي.. أم أن لديكم رأياً آخر?..