من أحداث جسام مرت بها منذ مطلع القرن العشرين حتى اليوم, فمعارفهم قد تعمقت بكثرة مآسيهم وشدة تأثيرها إذ لا توجد أمة أخرى في العالم تعاني مما يعانيه العرب والمسلمون قتلا وتشريدا وتجويعا وإفقارا وتجهيلا وتمزيقا.
ولعل الدوائر الغربية عامة والأميركية والصهيونية خاصة قد طورت صيغ تلك المآسي وأساليبها مثل سياسة الحروب الاستباقية, والفوضى الخلاقة ومفاهيم ازدواجية المعايير في الحكم على القضايا الوطنية والقومية حتى صارت المعايير المزدوجة إحدى لوازم القرارات الدولية الصادرة هنا أو هناك وخاصة قرارات مجلس الأمن الدولي وأعلاها قرار حق النقض الأميركي الذي سلط على رقابهم.وبناء عليه فإن المنطقة العربية والإسلامية مرت- ومازالت- بمرحلة تاريخية بالغة الصعوبة والتعقيد والغرابة على اعتبار أنها منطقة استهدف للمخططات الغربية والصهيونية منذ معاهدة (سايكس- بيكو 1916م) حتى اللحظة الراهنة وحين كانت هذه المخططات سرية فإنها غدت- اليوم- معلنة وصريحة وترافقت بسلوك وحشي وفظ في تفتيت الدول والأوطان وإقامة أنظمة تابعة لها- وهي تزعم أنها أنظمة ديمقراطية- والسعي الدؤوب إلى الهيمنة على مقدرات المنطقة وسرقة خيراتها مستغلة الأوضاع المزرية والمتخلفة التي يعيش فيها الناس على مختلف الصعد سياسيا واجتماعيا واقتصاديا ونفسيا ومعرفيا وتقنيا و..
لذلك كله فإن البنية الاجتماعية والفكرية والدينية والعرقية تتعرض للتفكيك المنظم والتخريب المنهجي تحت مزاعم إشاعة الحرية والديمقراطية ووفق سياسة ازدواجية المعايير الأميركية سواء كان هذا في أفغانستان أم السودان والصومال أم في العراق ولبنان وفلسطين على حين كان يفترض تنمية التفكير العلمي والمعرفي والاقتصادي والاجتماعي وتوظيفها التوظيف الملائم لبناء الغد المأمول.
ولعل أغرب ما آلت إليه أوضاع المنطقة المزرية تلك التي دارت حول إنشاء أول محاكمة في ظل الاحتلال الأميركي للعراق لرئيس عربي انتهت فجأة بإقدام الحكومة العراقية على إعدام الرئيس السابق صدام حسين فجر السبت من عيد الأضحى 1 محرم 1427ه 30/12/2006م تحت دعاوى أنه إن لم ينفذ حكم الإعدام فيه فهناك خطة لتهريبه, وإذا كان الناس ينتظرون العفو وإطلاق السجناء, وتخفيف الأحكام فجر كل عيد على اعتبار القيم الأخلاقية الشائعة لدى الجميع فإن الحكومة العراقية نفذت إعداما سياسيا بحق صدام بسرعة خشية أن يبلغ سبعين سنة, إذ إنه من مواليد 1937م, إنه إعدام سياسي لا تغيب عنه إدارة بوش الابن, لأنها على علم مسبق به وعلى علم بمكان إعدامه وهو المكان الذي اختير بدقة ليلبي أهدافا مرسومة وكذلك كان سبب السماح بأدوات التصوير, بمثل ماهي على علم بتأجيل إعدام شقيقه برزان التكريتي وعواد البندر ما يجعل تصريحات السفير الأميركي في العراق زلماي خليل زادة بعيدة عن المصداقية فإدارة بوش هي التي أنشأت المحكمة العراقية ثم كانت تسلمها صدام حسين وبقية المتهمين عند انعقاد المحكمة فقط, وكانت تتدخل في كل صغيرة وكبيرة حتى اللحظة الأخيرة المتعلقة بشأن التصريح بدفنه ولم تكن حكومة المالكي إلا أداة منفذة لذلك كله.
ومن ثم فنحن لا نريد مناقشة قضية الحكم ذاته فكلنا يعرف أن أيدي صدام حسين ملوثة بدماء العراقيين ولا نريد أن نشير إلى مدى الإيذاء النفسي الذي لحق بنفوس الناس في أيام الأعياد وإنما نريد أن نتوقف قليلا عند عدم استكمال المحاكمة في القضايا الأخرى التي اتهم بها صدام حسين وعند طبيعة الحكم بالقياس إلى نظائره.
ومن ثم فكل إنسان أصيب بالحيرة الكبرى حول تنفيذ الحكم مباشرة وفق إدانته بجريمة (الدجيل) فقط, على حين بقيت جرائم أعظم منها محاطة بالغموض, ومن أبرزها غزو الكويت 1989م والحرب العراقية الإيرانية التي دامت ثماني سنوات 1980-1988 ولهذا راح كل منا يتساءل: من المستفيد من تنفيذ الإعدام بهذه السرعة دون الكشف عن الملابسات المحيطة بالجرائم الأخرى? ولماذا شكلت لصدام حسين محكمة عراقية داخلية تحت ظل الاحتلال الأميركي على حين شكلت محكمة دولية في جرائم أصغر منها وأقل خطورة على البشرية . ثم لماذا ينفذ حكم الإعدام برئيس عربي على حين لم ينفذ مثل هذا الحكم بمن هو أكثر إجراما ودموية من زعماء العالم كماهو عليه حال الديكتاتور (بينوشيه) الذي أطاح بانقلاب عسكري دموي في 11/9/1973م بحكومة يسارية ديمقراطية وقتل رئيسها (سلفادور الليندي) ولما عزل وقبض عليه أطلق سراحه حتى مات حتف أنفه في بلده (تشيلي) عن سبعة وثمانين عاما في كانون الأول 2006م.
لكننا نتساءل: من الذي سيحاكم الرئيس الأميركي بوش الابن وإدارته وحلفاءها في غزوهم للعراق وسرقة خيراته واحتلالهم لهم وزج أبنائه في السجون الكثيرة التي أنشئت فيه وأبرزها سجن( أبو غريب), وتأجيج الفتنة الطائفية والمذهبية فضلا عن أنها أنتجت ما يزيد على 700 ألف قتيل?!!
من الذي سيحاكم بوش الابن على جرائمه الكثيرة التي سببت للشعب العربي عامة والعراقي خاصة العديد من التشوهات النفسية والفكرية والسياسية والاجتماعية والصحية تحت ذرائع تخليص العراق من الأسلحة النووية ثم تبين أن إدارة بوش ضللت العالم وخدعته حين نسجت الأكاذيب والافتراءات من أجل غزو العراق وقتل شعبه وسرقة نفطه وكنوزه الأثرية وكانت من قبل قد غزت أفغانستان ودمرت الحياة فيها? وها هو ذا بوش - من جديد- يمعن في غيه ويقرر إرسال المزيد من الجنود إلى أرض الرافدين إذ صرح يوم السبت 6/1/2007م بأنه سيرسل ما يزيد على عشرين ألفا لينضموا إلى مئة وأربعين ألفا من لعقة الدم, وإن كانوا يبصقون الجراح وينزفون دما جراء ضربات المقاومة العراقية البطلة, ومن هنا نتساءل: هل يكفي ما يجري على الساحة الأميركية من محاسبة شديدة لإدارة بوش وهي محاسبة داخلية نتيجة مقتل 3000 جندي أميركي و50 ألف جريح فضلا عن قتلى المرتزقة وجرحاهم في حرب لا ناقة للشعب الأميركي فيها ولا جمل, بل جريمتهم أنهم خسروا أبناءهم ودفعوا ضرائب الحرب لتصب في جيوب اللوبي الرأسمالي الأميركي الصهيوني, إذا نسينا ما سرقته الشركات الكبرى من أرض العراق?!
فإذا كان الأميركيون يتفقون على أنه لا يجوز لأحد في العالم أن يحاكم الجندي الأميركي مهما تلوثت يده بدم الآخر- وفق نظرية الشعب المختار- فهل يمكن للعالم كله بما فيه الشعب الأميركي أن يحاسب بوش الابن وادارته لأن جرائمه التي ارتكبها أضرت بأميركا قبل العالم? هل ستمتد ثقافة المحاكمات إلى داخل الولايات المتحدة أم أن ازدواجية المعايير ستظل السياسة الوحيدة التي يعتمدها أي زعيم أميركي?