على تبرير استغلالها وعدوانها وتسخر في خدمته أدوات إعلامها الجهنمية, وهو يستند أيضاً إلى أسس أخرى كثيرة بعضها تاريخي جيوبوليتيكي والآخر ثقافي ديني, وما الرياح التي تعصف بالشرق العربي هذه الأيام إلا ظاهرة همجية من ظواهر الاندفاعية الرأسمالية الأميركية المتغطرسة للسيطرة على شرقنا العربي واستبعاد شعوبه ونهب ثرواته, وهي ليست في حقيقة الأمر سوى الحلقة الأخيرة في سلسلة الأطماع الغربية الاستعمارية, ولن نذهب بعيداً في التاريخ لملاحقة هذه الظاهرة إذ يكفي استدعاء ثلاثة منعطفات كبرى في القرن الماضي كي نفهم طبيعة ما يجري اليوم على الأرض العربية, فقد اعتقد العرب بعد الحرب العالمية الأولى التي حاربوا فيها إلى جانب بعض الأوروبيين المنتصرين أنهم سينالون الحرية والاستقلال, لكنهم سرعان ما اكتشفوا في (مؤتمر السلام في باريس) في العام 1918 - 1919 أنهم خدعوا وبدل أن ينالوا حريتهم واستقلالهم خضعوا للاحتلال المباشر من قبل الأوروبيين المنتصرين, وأسس هذا المؤتمر لحقبة قرن كامل من الصراع المعلن وغير المعلن مع الغرب الذي حاول دائماً أن يشل فاعلية الأمة العربية وقواها الحية وأن يعرقل أي تقدم اجتماعي أو نهضوي على مختلف مستويات نشاطها البشري والحيوي, ومع نهاية الحرب العالمية الثانية كان الغرب وراء إقامة الكيان الصهيوني على الأرض الفلسطينية قاعدة متقدمة له وثكنة عسكرية مدعومة بالمال والسلاح ومستعدة لشن الحروب والتوسع والعدوان..
وللمرة الثالثة بعد الحرب الباردة تتوجه أنظار الغرب نحو الشرق العربي ليكون أول ضحايا هذه الحقبة, ولا غرابة في أن تخلق الذرائع والأكاذيب لاحتلال العراق ويجري العمل على تمزيق وحدته والهيمنة على قراره السياسي والتحضير لزرع القواعد العسكرية فيه والتخطيط لإقامة طويلة الأمد على أراضيه, ولا غرابة في أن يوصم العرب كل العرب ب (الإرهاب) وأن تمنح أميركا نفسها حقاً إلهياً (بتحرير الشرق من نفسه) عبر احتلاله العسكري وسفك دماء أبنائه وتدمير مدنه وعمرانه, ولا غرابة أيضاً في ممارسة سياسة الإملاءات والتهديدات والضغوطات والتلويحات باستخدام القوة التي تخرج عن أطر أي عرف دبلوماسي أو قانون دولي, ولا غرابة فوق هذا وذاك من تقديم كامل الدعم السياسي والمادي والمعنوي للكيان الصهيوني والعمل على تصفية القضية الفلسطينية بمواصفات ومنطلقات وشروط صهيونية.
لكننا نحن العرب نحسن صنعاً لو بدأنا ليس بهم وبدوافعهم لكن بالصورة التي تطرحها أفعالنا وقيمنا وأنماط سلوكنا وتفكيرنا في أذهان العالم المعاصر غرباً وشرقاً وشمالاً وجنوباً لنعرف هل تجعلهم هذه الصورة أدنى إلى التعاطف مع قضايانا أم هم أدنى إلى الوقوع في شراك العداء التي تنصبها لنا الصهيونية والامبريالية في كل مكان, وبالمنطق نفسه ينبغي تسليط قدر من التأمل الذاتي وبوجه خاص ذاك الصمت الذي يخترق الآذان والعقول عن جرائم الصهيونية التي تمارس على الشعب الفلسطيني والعراقي وكل ما تعلمته من أساتذتها النازيين وتتفوق عليهم بإجهاض الحوامل وتحطيم العظام وهدم البيوت والتجويع والإبادة المنظمة, وغير ذلك من الأعمال الوحشية البدائية التي تتميز بها أيديولوجيتهم.
والأغرب من هذا وذاك والأكثر خطورة وأشد إيلاماً أن تجد من يطلع علينا بين حين وآخر بسياسات التواطؤ والتعاون مع العدو الخارجي من مثل (.. أو لا) الفاجعية وأخرى تدس رأسها في الرمال تاركة للعدو الأجنبي فرصة العبث بمصير الأمة وشعوبها وتقتيل أبنائها أو اللقاء بالصهاينة أو التطبيع معه سراً أو علانية, وهكذا لم تعد القضية الفلسطينية جوهر الصراع العربي الإسرائيلي, ولم تعد تعبيراً عن أعلى درجات الوطنية والشعور القومي بل لم تعد هناك رغبة لدى هؤلاء بالاعتراف بوجود مثل هذا الصراع, وتجد من يتعامل مع الأجنبي متخلياً عن كل حس وطني ليجلب لوطنه الاحتلال والذل والمهانة والخراب ولشعبه الموت والدمار.
ألا يرى كل عربي في كل هذا خروجاً من المجرى العام للتاريخ? ألا نرى أن الكثير من ممارستنا وأنماط تفكيرنا لا تختلف كثيراً من حيث الجوهر عن ردود الفعل التي قابل بها الهنود الحمر أو الاستراليون الأصليون غزاتهم? كما أن المصير ذاته ينتظرنا رغم كثرة عددنا واتساع أرضنا ووفرة أموالنا, ما لم نسارع إلى تغيير ما بأنفسنا وبأوضاعنا?
إن أي بحث جاد وموضوعي عن غياب العرب عن المجرى العام للتاريخ لم يكن ليغفل ظاهرة الانقسامات والصراعات والحروب المحلية الدائرة دوماً بين العرب, وانصرافهم عن الخطر الصهيوني القابع في ديارهم وعن الخطر الغربي الذي يستبيح أوطانهم ومدنهم وثرواتهم إلى معارك وصراعات جانبية فيما بينهم, بل وتحالف بعضهم الصريح والضمني مع العدو الأجنبي ضد إخوتهم وأبناء عمومتهم..
كما يعرف أيضاً أن هذه الظاهرة, ظاهرة التحالف مع الأجنبي الغازي ضد الأخ والقريب والجار وجدت في كل عصر عندما كان عامل التماسك القومي متغيباً أو خافتاً وضعيف الأثر.. كذلك يستطيع كل دارس لتطور المجتمعات أن يرد ظواهر التحالف أو التحارب هذه, في كثير من الأحوال إلى عناصرها الأولى المرتبطة بالتكوين الطبقي والثقافي للمجتمعات السريعة التفكك, لكن الذي يستوقف الدراسة هو التفكك القومي للعرب في عصرنا الراهن سواء في مواجهة الغزو الصهيوني ومخاطره الكبيرة أو في مواجهة الغزو الأنكلو-أميركي ومشاريعه للهيمنة المطلقة وما تحمله من كوارث, ذلك التفكك الذي يكاد يأخذ طابع الانتحار الجماعي, ولا يسعنا سوى أن نتساءل في هذا الحيز الضيق المتاح لنا على هذه الصفحة عن سر هذا التفكك, فكل ظاهرة اجتماعية مهما كان قدرها من التعقيد تثير مجموعة من التساؤلات, أولها ما دور الأوضاع الداخلية والخارجية في إيجادها, وثانيها علاقة الماضي بالحاضر, وثالثها ما هو وفي أية لحظة معينة العنصر المسيطر من بين مختلف العناصر التي تتكون منها الظاهرة: أهو العنصر الاجتماعي الاقتصادي, أم العنصر السياسي أم العنصر الثقافي العقائدي..الخ? ثم كيف يتغير تراكب العناصر عندما تتعاقب الأحداث على هذا النحو أو ذاك.
وإن إشكالية الواقع العربي الراهن هي في جوهرها إشكالية البحث عن أسباب ذاك الفشل الملموس الذي لاقاه الوطن العربي في التوائم بشكل ناجح وهادف مع الواقع المعاصر, وفي الاستجابة بصورة مناسبة لتحدياته المميتة, وهي -بهذه المثابة- تطرح تلك المجموعة من التساؤلات بصورة حادة للغاية, وتوفر هذه التساؤلات إطاراً مرجعياً مفيداً لدراسة إشكالية المأزق العربي المعاصر بعيداً عن الانجذاب نحو العموميات الغامضة التي نهرب إليها في أغلب الأحيان.
واضح أن جوهر المأزق يكمن في العاملين الخارجي والداخلي وليس من المنطقي تفسيره بالعوامل والظروف الخارجية وحدها.. لكن يكاد يكون من المستحيل بسبب التعقيد والتدخل بين الداخلي والخارجي, تحديد الخط الفاصل فيما هو داخلي وخارجي في حال وطننا العربي لأنه المكان الوحيد في العالم وبحكم موقعه المركزي تمتزج فيه العوامل الداخلية بالعوامل الخارجية بصورة يصعب فصلها عن بعضها أو التعرف عليها بعيداً عن نقيضها, ويبقى أن حسم الصراع بين هذين النقيضين والضدين مرهون بإرادة الداخل العربي بوحدته وتماسكه القومي, باستجابته لهذا التحدي المصيري في عصر لا مكان فيه لمن يدير ظهره لحقائق التاريخ.