بل الغياب جديرٌ بالوضوح، كقصيدةٍ مطريِّةٍ على فمِ غابة، أو كدمعةِ أسفٍ على عهدٍ مغدور!! جميعُ أعمال الغياب تنبثقُ عن الحزن كانبثاق النور عن القناديل، ولهذا فهو سيّدُ الأحزان، ومؤلِّفُها.. ولايعني هذا الاعتبارُ، أنَّه يُمسك بيده قلماً ويكتب ما يطيب له من فراقات ، ووداعات،ثُمَّ يشرحها بالحزن، أو الأسى، أو سوى ذلك. كالجملة الاعتراضيه، التي محلّها من الاعراب الحبُّ أو الانتظار أو الخيبةُ، يظلُّ الغيابُ ممسكاً بفانوسه السحري، ليس من أجل جملته الواحده، التي يطيب لبعضنا تسميتها اعتراضيةً، انما يمرُّ بالفانوس الخاص على الجمل المفيده الأخرى، كـ جملة الأمل، أو الوجد أو الوفاء، أو الأمومة، أو الأبوّة، أو الرجوع إلى الأمكنه، أو استذكار صور الأحباب، الذين كانوا على قيد الحضور!! ما نلتقي مرّةً إلاَّ يكتبنا غيابٌ ما.. ومانعود إلى أوراقنا إلاَّ يسبقُنا الفقدُ، الناتىء كشوكٍ صحراويٍّ، ونتقاسم الالتقاء مع الغياب.. ونتذوق طعم أُلفةٍ حميمة بنكهة التمني بالدوام.. وتحتفظ الشفاه بحريق ابتسامة تجهشُ بالأسى أو تختفي كالبرق.. الغياب حارس مجنون،ومحبٌّ لمحروساته، ككلِّ الحُرّاسِ الحقيقيين، أي الذين يُخلصون لفعلهم، مهما يُكلِّفهم ذلك.. حارس الأيام، ونبيُّ الحضور البليغ.. لايمكن لأية قصيدة عشق، أن تكتمل من غير ظلِّ الغياب.. ولاتصحُّ البشارات العاليةُ، دون أن يختمها هذا النبيُّ الآتي بحكمته، من بريّات الحواس، وأقاليم الوعي والاحتمالات المصحوبة بالقلق.. وكم عجيبٍ ومحال تجميعُ الأيام، أو الإتيان بالوقت إلى مكان محدّد، والابقاء عليه؟! الغياب محاولةٌ، ليس أكثر، لإعطاء الزمن صفةً شعريّةً أو بلاغيةً،أو لتبرئتهِ من صفة المخادعهَ ! إننا نُحطِّب في غابة الغياب، لعلّنا بين الوداع واللقاء نشعل نار الوجع المبدع.. ومهما يكن من أمرنا وحبنا، وتمرّدنا لابدّ من الرجوع إلى مؤلفات الغياب..‏