«ألوان الشمس من جبل الحص» الاحتفاء البهي بالفن الفلاحي السوري
ملحق ثقافي 25/4/2006 د. محمود شاهين «إذا كانت الأمم تُسجل عبقرية أبنائها في آثار ومنشآت وتماثيل، أو في منظومات ذات موسيقا وأشعار وملاحم وأساطير ، فإننا نجد شعبنا الذي أقام في هذه المنطقة من العالم، يسجل تراثه في صناعات وخيوط وألوان ذات بهاء ورونق واتقان،
استطاعت أن تغزو البلدان المجاورة ، ثم تسافر عبر القفار والبحار لتغزو أسواقاً خارجية امتدت في طول بلاد العالم القديم وعرضها، وبذلك برهن السوريون على أنهم أساتذة هذا الفن، فن صناعة النسيج والذوق الرفيع». بدأ هذا المشروع الفني التجاري اللافت الذي تُوّج بمعرض (ألوان الشمس من جبل الحص) الحاضن لأعمال فنية تطبيقية تعبيرية رائعة أنجزتها مواهب فطرية نسائية بكثير من الصدق والعفوية والخبرة المصعدة بالتجربة والممارسة وبتوجيه مدروس بهذه الكلمات ،
مهد الباحث في الأزياء السورية الدكتور حسن حمامي لكتابه (الأزياء الشعبية وتقاليدها في سورية) الصادر عن وزارة الثقافة بدمشق عام 1791. وما أشار إليه الباحث، حقيقة تتأكد يوماً بعد يوم، بدخول أعمال النسيج السوري دائرة الاهتمام والبحث والدراسة، من قبل عدد من الباحثين الأوروبيين الذين وجدوا فيه، قيماً فنية موّارة بالجمال والأصالة والعراقة، ما يجعله جديراً بالبحث والدراسة والتطوير. والفنون هذه ، عادة ما تضعها مواهب فلاحية فطرية صادقة، تمرست ونضجت، عبر الممارسة المجتهدة ،والعمل الدؤوب، بدوافع تتماهى فيها، القيمة الاستعمالية بالقيمة الجمالية. نماذج رائعة من فنون التطريز والنسيج الفلاحي النسائي، انضوت الشهر الماضي، في معرض هام حمل عنوان «ألوان الشمس من جبل الحص» الواقع جنوب شرق حلب، شهدته صالة المركز الثقافي الألماني (معهد غوته) بدمشق، وضم أربعاً وستين لوحة من القياسات المختلفة،
منفذة بالخيطان الملونة بطريقة التطريز، من قبل نساء وفتيات سوريات من جبل الحص. احتضنت هذه الأعمال، موضوعات مأخوذة من البيئة الاجتماعية والطبيعية المحيطة بمنفذاتها. أعد هذا المعرض مركز عناة المختص بالتصميم والتسويق الموجود في سوق البزورية بدمشق القديمة، بالتعاون مع السفارة الألمانية، والمركز تديره الفنانة الألمانية (هايكة عوض) ويهتم باستنباط طرز من الأزياء النسائية الحديثة، مستلهمة من الموروث السوري والفلسطيني في حقل الأزياء، بهدف تحقيق هوية محلية، في الأزياء النسائية المعاصرة ، وقد حقق هذا المركز إنجازات مدهشة ، جديرة بالدراسة والرعاية والتشجيع. في تقديمها للمعرض، أشارت (هايكة) إلى أنه منذ سنتين، بدأ مركزها بالتعاون مع نساء أربع قرى من جبل الحص، من أجل إنشاء مشروع تعاوني نسائي، يهدف لانتاج الأعمال التي ضمها المعرض، وأعمال أخرى أخذت طريقها إلى أزياء وإكسسوارات نسائية حديثة. لقد اكتشفت (هايكة) ، الأعمال الرائعة التي تنجزها نساء هذه المنطقة، بطريقة التطريز، وبألوان زاهية رافلة بالحياة، تشمل رسومات الورود، والناس، والحيوانات، ومظاهر الطبيعة المختلفة، إضافة إلى العمارة الريفيّة البسيطة، والجوامع، ومشاهد عديدة من الحياة اليوميّة لإنسان المنطقة.وتؤكد أنها حاولت من خلال هذا المشروع،إعادة إحياء هذا التراث الرائع، بتطريز كروت معايدة، وهي مشغولات لاتحتاج إلى تقانات تطريز عالية، ومنخفضة الكلفة، ولاتحتاج إلى وقت طويل لإنجازها. وهكذا بدأ هذا المشروع الفني التجاري اللافت الذي تُوّج بمعرض (ألوان الشمس من جبل الحص) الحاضن لأعمال فنية تطبيقية تعبيرية رائعة، أنجزتها مواهب فطرية نسائية بكثير من الصدق، والعفوية، والخبرة المصعدة بالتجربة والممارسة،وبتوجيه مدروس، من قبل مركز عناة الذي اكتشف مدى حب النسوة لهذا العمل،ليس فقط بسبب الدخل المادي الإضافي الذي تحقق لهن عن طريقه،وإنما لأنه سد جانباً من الفراغ في حياتهن، وقام بصقل المواهب الفطرية، وتعميق المعرفة التقانية لديهن. شارك في هذا المشروع حوالي ثمانين امرأة ينتمين إلى قريتين لكل منهما خطه الفني الخاص، في معالجة الموضوعات المتناولة في اللوحات. فنساء القرية الأولى، عالجت هذه الموضوعات، بالحاح واضح، على التفاصيل الصغيرة، وتأكيد ماهية الشخوص والحيوانات والنباتات والعمارة، بنوع من التسجيليّة الواقعية المبسطة، والعفوية المتناهية، بينما نساء القرية الثانية، يملن إلى استخدام العناصر الغرافيكيّة، في معالجة هذه الموضوعات الريفية الرائعة،وبشيء من الاختزال الذي يصل إلى حد التجريد المعاصر. اللافت أن الفن الفلاحي السوري (خاصة النسيج والتطريز والمشغولات النسائية) على غناه الفني والجمالي والدلالي والتعبيري والتراثي، لم يحظ باهتمام الفنان المحلي، وإنما كان موضع اهتمام الأجانب، وعلى وجه الخصوص الفنانات اللواتي تزوجن من سوريين، ومنهن الفرنسية (أوديل ديمون فوكون) زوجة الفنان الحفار (مصطفى فتحي) الأستاذ السابق في قسم الحفر والطباعة بكلية الفنون الجميلة بدمشق. فقد وضعت هذه الباحثة، رسالة دكتوراه حول الفنون الشعبية السورية المتعلقة بالنسيج والتطريز والمشغولات المنفذة بالقماش الملون، كالمرقعيات ،والجيابات، وأغطية الطاولات والشالات وغيرها، وقامت بتقديم ما جمعته، منها ، في معرض صال وجال في العديد من العواصم العربية والأجنبية، مثيراً إعجاب ودهشة واحتفاء كل من شاهده، وهذا ما سيفعله معرض (ألوان الشمس من جبل الحص) إذا ما أخذ طريقه إلى هذه العواصم، لما تحمل أعماله من قيم فنية جمالية فطرية رفيعة، أصبح الانسان المعاصر بأمس الحاجة لها، بعد اجتياح الميكنة لكل شيء في حياته، بما في ذلك، عواطفه وأحاسيسه!!.
|