تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


ابن حلب.. قسطاكي الحمصي الشــــاعر الرحــــالة

ملحق ثقافي
25/4/2006
محمد عيد الخربوطلي

أدباء وشعراء حلب فضل كبير على تاريخ آداب العرب وذلك لبزوغ عدد كبير من الشعراء والأدباء بين جنباتها، كانت لهم مكانتهم عند الدارسين والنقاد، ومازالت حلب تلمع بأدبائها وشعرائها الكبار ففيها بزغ نجم البحتري والمعري وأبو فراس والمتنبي وابن جني وقسطاكي الحمصي.

قسطاكي الحمصي الشاعر الفيلسوف والناقد الحكيم هو أول حامل للواء النقد في أرض العرب بشكله العلمي الحديث، ولد في الرابع من شباط لعام 8581، وينتهي نسبه إلى آل المشروقي وتوفي والده وهو في الخامسة من عمره فكفلته أمه. وأمضى فترة تعلمه في المراحل الأولى في حلب في مدرسة الروم الكاثوليك والفرنسيسكان، وتعلم النحو والعروض والعربية والفرنسية على بعض الرهبان والقاسوسة، وساعده على حبه للأب حضوره مجلس جده لأمه- عبدالله بن ج برائيل الدلال- فقد كان جده محباً للعلم والأدب وكان بيته منتدى الفضلاء ومثابة النبلاء، فسمع مايدور من مساجلات ومناقشات أدبية، فانطبعت في نفسه على حبه للأدب وعند خروجه من مجالس جده يبدأ قرض الشعر فنظم قصيدة هجاء في صديق له وهو في الثالثة عشرة من عمره فأرشده أستاذه إلى رسالة الشعر السامية وبيّن له أن الهجاء مذموم فأطاعه وبدأ ينظم المقطوعات والقصائد فكانت باكورة شاعريته سخية الجودة سخية الحياة. لكنه عندما بلغ السادسة عشرة من عمره وقف مكان أبيه في تجارة جده ونجح كثيراً، غير أن روحه كانت تشرئب بين الحين والآخر إلى واحة الأدب والثقافة العربية وتحن، وحينها صادف إلى دواوين وأخبار العرب فيغترف من ذلك المعين الثر يغذي به روحه الشاعرية ثم يعود ليغرق في خضم التجارة والمال. وكان سائداً في زمانه أن الشعر والكتابة لايُطعمان الجائع لكنه استطاع أن يتفلت من هذه العقلية وينسجم مع القلة من الأدباء. وبعد أن هدأت به الحياة واستقرت أموره المادية ، ونضج واكتمل ، صار يتطلع إلى كافة علوم عصره، ينهل من كل نبع ويغرف من كل فرع، وكانت الفرنسية وآدابها غاية طموحه وكمال ثقافته، إلى أن رضخت له واستقام عوده فيها وأتقنها إتقانه للعربية وكتب فيها وترجم عنها. ومما ساعده على بنية ثقافته المكتبة الزاخرة التي جمعها من أمات الكتب ونوادر المخطوطات والمطبوعات وكثرة قراءته لأشعار العرب والغرب. كما أن رحلاته المتعددة الأرجاء الموزعة شرقاً وغرباً غذّت ثقافته وطعّمت إنتاجه بفيض من الآراء الجديدة الجريئة. وعرف أن ثقافة الأديب لاتقف عند تبحره في الكتب والكتابة والإبداع فقط، إنما تزداد إذا ما أشرك تثقيف العقل بمدى الإطلاع والتجوال ، فالسياحة تعطي مردوداً فعالاً تكاد تعادل مكتبة زاخرة لما فيها من تجارب واختبارات ومعارف ، وخاصة أن شاعرنا تعرف في رحلاته على كبار الأدباء وجالسهم وراسلهم، وصارت مراسلاته وثائق أدبية تعتبر من عيون النثر العربي. ووصف شاعرنا المدن التي زارها والمجالس التي حضرها بعيون القصائد الفريدة ، فأضاف إلى ديوان العرب ألواناً شعرية جديدة، وعرف شاعرنا في رحلاته أحوال الشعوب التي زارها وصاحب أعلام الأدب والسياسة فيها، فكان لذلك تأثير كبير على حياته الأدبية والسياسية والثقافية، غير أنه لم يتأثر بالمذاهب الشعرية التي كانت معروفة في أوروبافي تلك الأزمان. ورحلاته بلغت ثمانية على طول حياته.. الأولى كانت عام 5781 إلى فرنسا، وسببها الطاعون الذي هدد مدينة حلب فسافر مع بعض أهله إلى مرسيلية عند أقاربه وبقي قرابة عامين أتقن فيهما الفرنسية ،وزار عدة مدن فرنسية ونظم فيها الشعر ووصف طبيعتها الخلابة وأبنيتها الراقية. والثانية كانت عام 8781 إلى باريس حيث أعلن عن افتتاح المعرض الفرنسي فلج به دافع الشوق إلى رؤية تلك العوالم ثانية، فأقام عليها عاماً كاملاً وقال: لقد زرت المعرض ثلاثين مرة، وعاد بعدها إلى حلب وتزوج واستقر ولعبت زوجته دوراً مهماً في توفير الاستقرار النفسي له ليبدع وليعطي. والسابعة كانت عام 2191 إلى فرنسا وكانت للتنزه وبقي فيها خمسة أشهر فتفجر فيها بحر الشعر عنده وأنتج نتاجاً أدبياً راقياً لاستقراره وهدوئه ومما نظمه في رحلته هذه قصائد في جمال الطبيعة، قال يصف باريس: ليس فيها قولٌ لليتَ ولا في صنعها خدعةٌ ولا تدليس وترى كيفما توجهت ظرفاً وجمالاً تهيمُ فيه النفوسُ ورحل من باريس إلى لندن وقضى فيها وطراً ومما قاله يدمح مدينة لندن: زرت لندنَّ ربةَّ الشمس تجلّت أنوارها في الرياضِ إن تكن شمسها قد احتجبت فالـ ـنورُ فيها كالبرق في الإيماضِ وبعدها عاد إلى حلب ودخل بيته يوم أن بدأت الحرب العالمية فأكب على مكتبه يجمع شتات مؤلفاته ويشذبها. والثامنة كانت عام 2291- إلى دمشق- عندما عُين عضواً في المجمع العلمي في دمشق وصار صديقاً لمؤسسة محمد كرد علي وتبادلت بينهما المراسلات الأدبية. ولما عاد إلى حلب بالهموم والأحزان على موت أحد حفدته فلم يجد دواء يلطف حزنه إلا الشعر والنثر فعكف على تأليف كتابه أدباء حلب ذوو الأثر في القرن التاسع عشر. وبقي في بيته يجالس مكتبته ويقيم مجالس الأدب والشعر إلى أن توفي رحمه الله مساء الأحد في التاسع من آذار 1491. هذه رحلات شاعرنا الفيلسوف الذي لم يُعط حقه من قبل النقاد والدارسين، وهو أول من أمسك بريشة النقد في العصر الحديث بشكله العلمي ،هذا الشاعر الذي كانت الوطنية مقصده والعروبة عقديته واللغة العربية ديدنه فحق لحلب أن تفتخر بمثله.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية