حلب حاضرة النشاط التجاري والثقافة
ملحق ثقافي 25/4/2006 مما لاشك فيه أن مقتضيات الاجتماع والمرحلة التي بلغتها الحضارة الإسلامية وطبيعة النظام السياسي السائدين في تلك الفترة من العهد الحمداني، دفعت سيف الدولة الى سياسة اقتصادية معينة يقتضيها كونُه في خط الدفاع الأول عن الإسلام والمسلمين وقدكان لهذه السياسة أبلغ الأثر في الحياة الفكرية والاجتماعية،وخاصة إذا تذكرنا الأوضاع السياسية التي كانت تحيط بهذا الأمير المجاهد لاسيما بعد أن امتدت سلطته حتى شملت شمالي سوريا كله،
وجانباً من كيليكية،وجزءاً كبيراً من شمالي العراق، وانتزع مركزاً امامياً من أرمينية. اقتصادياً،لم يختلف الوضع العام للمملكة أيام الحمدانيين عن دورة حياتها السابقة إلا بما تحلت به من المنعة والنصر والشهرة.. وإذا كان الأمراء السابقون يستنزفون أموال الشعب في سبيل ملء الخزينة فإن الحمدانيين كانوا يسخون بكل ما في الخزينة على جيوشهم لضمان النصر وعلى الأدباء لرعاية العلوم، ليعودوا الى ملئها سواء بالنصر والغنائم، أوبالجباية والضرائب. اشتهرت حلب بانتاج الغلال من القمح والشعير والذرة والسمسم والبقول والفواكه وخاصة الكروم والبطيخ والتين،والتفاح، فضلاً عن غابات السرو والغار والصفصاف. واشتهرت معرّة مصرين وجبل السماق من كور حلب بالتين والزيتون والزبيب والفستق والسمّاق والحبة الخضراء،
وتل أعرن بالعنب الأحمر، وكانت بلاد المعرة ذات أشجار يانعة تنتج الزيتون والتين وغيرها من أنواع الفواكه. كانت أنتجت قنسرين ونواحيها الفستق والكروم وكانت بالس (الرقة) الواقعة على غربي الفرات تنتج كميات كبيرة من القمح والشعير، واشتهرت منبج بكرومها وفاكهتها المجففة كالزبيب والجوز والفستق. ولم تكن العواصم والثغور أقل انتاجاً، فقد اشتهرت انطاكية بمزارعها ومراعيها، واشتهرت الحدث ومرعش بوفرة فاكهتها، والاسكندونة على البحر الأبيض بالنخيل والغلات، والتينات بخشب الصنوبر، أما عين زربة فاشتهرت بالنخيل والثمار والمراعي، كذلك كانت طرطوس غنية بزراعة الحبوب واشتهرت انطاكية أيضاً بزراعة القمح والشعير، ونالت هذه البلاد شهرة ذائعة في أعنابها الكثيرة ومزارع الزعفران الذي يستخدم في الأطعمة والأشربة. في بلاد الحمدانيين إن الاقتصاد الزراعي في بلاد الحمدانيين كان متعدّد المصادر. وقد أنتجت لهم البلاد التي دخلت في حوزتهم شتى الحاصلات مثل الحبوب والبقول والأشجار المثمرة وغير المثمرة المختلفة والنخيل والموز والبرتقال في السواحل. والسرو والارز في الوسط والقطن والعنب والكتان والنيلة وقصب السكر والسماق. هذا فضلاً عن المراعي التي ربيت فيها الماشية. أما من الناحية التجارية فقد كانت حلب أهم مركز لتجارة سورية الشمالية وقد امتازت بأسواقها وفنادقها العامرة وتصدير ما تصنعة من الخل والصابون والقطن والثياب التي ذكر المقدسي انها كانت من التجارات التي ترتفع من هذه المدينة. ولكي نعرف مدى نشاط التجارة بين حلب وانطاكية نرى أن اهتمام الاغريق بهاتين المدينتين لجلب البضائع كان كبيراً جداً بدليل ما نراه من اسماء المواد المستوردة منهما كالذهب والفضة والحرير والجواهر والديباج المزركش والاقمشة المحلية لصناعة الملابس ونسيج الكتان والماشية. ولما كانت متاجر حلب تصل الى انطاكية عن طريق الفرات لتصدرها بدورها عن طريق البحر، غدت هذه المدينة ميناء هاماً بل لقد أصبحت من أكبر الموانىء لتصدير بضائع الشرق. ويوجه الجغرافيون القدماء نظرنا الى مدينتين تجاريتين مهمتين أولهما أطرا بزنده وهي طرابزون الحالية الواقعة على البحر الأسود وكانت مثابة لكثير من التجار المسلمين والروم والأرمن، ولما كانت تقع على الحدود الإسلامية البيزنطية أصبحت واسطة عقد السلع المستوردة الى البلاد الاسلامية، وفي أسواقها الواسعة المشهورة باع التجار مختلف البضائع .وقد قال عنها المسعودي: «إن لها أسواقاً في السنة يأتي إليها كثير من الأمم للتجارة من المسلمين والروم والأرمن وغيرهم» وكانت الثانية أرزن وهي مدينة تجارية عظيمة اشتغل أهلها بالتجارة، فربحوا الأموال من بيع وشراء. أما الصناعة فقد نشطت في العالم الإسلامي منذ القرن الثاني الهجري، فأخذ الصناع المسلمون ينشرون في أنحاء العالم مصنوعاتهم الفاخرة. وقد ظلت أوروبا فترة طويلة من العصور الوسطى تعتمد في استهلاكها المحلي، على منتجات الشرق من الأقمشة المزركشة والروائح العطرية والحرير الذي تركزت صناعته في سورية. الوراقة والزخرفة راجت صناعة الزجاج والورق في بلاد الحمدانيين فكانت الزجاجة من أقدم الصناعات في الشام، وبخاصة في حلب التي كانت تصدر زجاجها الي العراق، وقد برعت أيضاً بصناعة الورق ولابد انها شهدت أوج هذه الصناعة في القرن الرابع بدليل كثرة التأليف ورواج مهنة الوراقة،و الشعر الحمداني يزخر بذكر الدفاتر والقراطيس والورّاقين من ذلك قول كشاجم: ما يكسر الدفتر إلا الذي يرغب في قيمة أوراقه أو عاجز لم يستطع نسخه فضاق عن اجرة ورّاقه وهنا نشير الى ما ذكره آدم متزعن المعاهدة التي عقدت بين قرعوبه والروم سنة 953هـ (969-079م) فقال إنها تمدنا بقائمة للبضائع المصنوعة في الشرق والتي كان الروم يقبلون عليها إقبالاً كبيراً وهي الذهب والفضة والديباج والسندس والأنسجة. ذلك أن سورية اشتهرت منذ القدم بصناعة الحرير الرائجة التي ورثها العرب عن البيزنطيين. ومن هنا غدت صناعة الملابس في البلاد الإسلامية أرقى الصناعات . وكانت البيوت تزيَّن بستور ملونة تعلَّق على الجدران، على حين تزيَّن الأرض بسجاجيد وبسط دقيقة الصنع، ويضيف متز: إن جميع البيوت المترفة امتازت بثلاثة أنواع من السجاجيد،أولها الستور وثانيها البسط وثالثها الأنماط تفرش على الارض لتطأها الأقدام.في ميدان اللغة وفي الميدان الثقافي اللغوي برز أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي النحوي ويصفه ابن خلكان بأنه« كان إماماً في علم العربية، قرأ الأدب على الشيخ أبي علي الفارسي» وقد شرح ابن جني ديوان المتنبي وخلف عدة مصنفات في الsنحو منها كتاب« الخصائص» و«المصنّف» و«سرّ الصناعة» و«التلقين في النحو» و«التعاقب» و«الكافي في شرح القوافي» و«المذكر والمؤنث» و«المقصور والممدود» و«التمام في شرح شعر الهذليين»وغيرها كثير عددها ابن خلكان. وكان أبو الحسن علي بن محمد الشمشاطي الأرمني الأصل معلماً لأبي تغلب بن ناصر الدولة وأخيه ثم أصبح نديمهما ، وبالإضافة الى مصنفاته الأدبية مثل «النزه الابتهاج» و«الديارات» و«أخبار أبي تمام» فإنه كان شاعراً مجيداً واسع الرواية، ترك لنا بعض مقطوعات عذبة في وصف البنفسج والجلنار والتغني بالطبيعة،وكان التشيع يغلب على الشمشاطي شأن كثيرين ممن عاشوا في بلاط الحمدانيين. نجد السرّي الرفاء الذي تغنى بجمال هذه المدينة وترك لنا- كما مرّ معنا- صوراً اجتماعية رائعة وصف فيها الحلاقين والأطباء والسفن وصيادي السمك والحمامات فضلاً عن وصفه مشاهد الطبيعة وأزهارها وأشجارها وغدرانها والسحب والثلج والمطر، بالاضافة الى شعره في المديح والتهنئة والهجاء والغزل والإخوانيات والرثاء. وكذلك برز الخالديان الأخوان الموصليان أبو بكر وأبو عثمان محمد وسعيد ابنا هاشم من قرية الخالدية بالموصل وكانا شاعرين أديبين حافظين وقد جمع أبو عثمان شعره وشعر أخيه، كما تركا تصانيف منها «كتاب حماسة شعر المحدثين» و«أخبار أبي تمام ومحاسن شعره» و«أخبار الموصل» وغيرها. وفي الموصل نجد بالإضافة الى الذين اسلفنا الإشارة اليهم الببغاء والتلعفري. ولعل من خير الأمثلة أن أبا تغلب اقتنى نسخة من كتاب الاغاني لأبي فرج الاصفهاني بعشرة آلاف درهم وعكف على دراسته، فأعجب بما حواه من طرائف الادب حتى أمر أن تنسخ له نسخة اخرى وتجلد ويكتب عليها اسمه، عُبّر عن نفاسة هذا الكتاب بقوله:« لقد ظلم ورّاقه المسكين وأنه ليساوي عندي عشرة آلاف دينار، ولو فُقد لما قدرت عليه الملوك إلا بالرَّغائب» وهو قول ينطوي على تقدير فائق لقيمة هذا المؤلف الذي مازال يعتبر كنزاً لايقدر بثمن في ميدان التراث العربي. أيمن حرفي
|