حلب سادنة موسيقا التصوف!!
ملحق ثقافي 25/4/2006 إعداد: هدى أنتيبا معجزة التراث يعيد المؤرخون الغربيون جذور الموسيقا العربية إلى الحضارات المنتشرة في بلاد الشام والرافدين على حد سواء... حضارات أنجبت فنوناً خلّاقة في أريافها كالفولكلور الشعبي وحواضرها على غرار حلب ودمشق وبغداد وقرطبة والقاهرة.. والتي لاتزال تعيش على نبض إقاعاتها حتى الآن..
رافقت تلك الموسيقا الميثولوجيا والأدب والديانات وصولاً إلى علوم الرياضيات والفلك والفلسفة.. ألم يرافق الإنشاد القصيدة في العصر الجاهلي؟ ألم يطلق على الشاعر لقب الكاهن أو العراف؟ألم ترسم المزامير الآشورية والتراتيل السريانية فضاءات فنون لم تجف ينابيعها حتى اليوم؟؟ مسارات فنية هي شقت الطريق أمام تواصل الحضارات في الآسيوتين الصغرى والوسطى وشمال أفريقية وجنوب أوروبا عبر التاريخ.. وكان سجع تلك الأناشيد المقفّاة بداية انطلاقة الألحان الغنائية قبل أن تعرف الموسيقا العربية تأثيرات علم الفلك والفلسفة وبخاصة نظرية «الإيتوس» المنتشرة في الأوساط الثقافية الهيلينستية في الشرقين الأوسط والأدنى في تلك المرحلة..و«الإيتوس»
كلمة يونانية تعني «الطباع» .. والطبع في «المقام» الموسيقي ينسجم مع التقلبات المناخية الجوية والتحولات النفسية والجسدية لدى الانسان كما كتب «سيمون جارغي» البرفسور في جامعة جنيف السويسرية في مؤلفه: «الموسيقا العربية» الصادر عن دار المطبوعات الجامعية في فرنسا لعام 0002 .. ألا ترتبط المقامات الأثنتا عشرة بالأبراج الكونية ورموزها النجومية وعناصر الطبيعة كالهواء والماء والنار كما أفاد «عبد المؤمن البلخي حين قال: «اعلم أن مقام الرست من طبعه النار وبرجه الجدي»..؟! وتنحدر كلمة موسيقا من «الميوز» أي الحورية وكانت ربة اللحن في الميثولوجيا اليونانية تدعى «أوتيرت» وهي شقيقة تسع حوريات أخريات هن بنات «زيوس ومينمو سين »وترأسن الفنون كافة. الرقص وحوريتها «ثيتربسيشور» والشعر الغنائي وربته «بوليمي» والكوميديا وحوريتها «تالي».. أما المقام في الموسيقا فيعيده المؤرخ السويسري إلى عدد من الأنبياء تغنوا بإقاعاته:أبونا آدم على سبيل المثال ابتدع مقام «الرست» وداود والبني مقام السيكا وابراهيم اختار الحجاز تأتي لفظة.. صوت كما أفاد «جارغي» في الينابيع التي فجرها «موسى» بعصاه.. ثم يضيف «سيمون»: أن البحور الشعرية تغلغلت إلى الموسيقا العربية لتشكل أوزانها: كالرمل والخفيف والثقيل والبسيط.. إضافة لعدد من الألحان العجمية المنشأ كالنهاوند والكردي وشهناز ونوروزش ..ولا تزال تلك الألحان الخاصة بالمقام العربي تحتفظ بتسمياتها التي أطلقها عليها الفيلسوف «الفارابي» الذي علق على مؤلفات أرسطو.. كان من أبرز تلامذته «ابن الطبيب الذائع الصيت في أوروبا عصور الظلام وتوفي عام 7301...وبدورها حملت تلك الأوزان لغة المقام -القصيد.. وما أن جاء الاسلام وعمت رسالة الدين الحنيف السمحة أرجاء الجزيرة العربية وصولاً إلى أراضي الشام والرافدين حين راح المقرؤون ينشدون آيات القران الكريم خلال الدعوة إلى الصلاة منذ أيام الرسول العربي محمد صلى الله عليه وسلم.. ألم يترنم «بلال» الحبشي بسجع الآيات المعجزات؟ وكان الحداء نواة أينعت بين ثناياها الموسيقية العربية في الصحراء وواحاتها الوارفة الظلال.. ألا يعتبر إنشاء القصيد في العصر الجاهلي توءم الشعر الغنائي والوثيقة الوحيدة التي تدل على ازدهار هذا النوع من الطبائع الفنية في تلك المرحلة؟.. فعلى هدي خبب الجمال والنوق ولد الزجل والحداء.. ثم جاء التهليل تصحبه الطبلة كآلة موسيقية ذات إيقاعات لاتنضب.. ولتعزف نساء فجر الاسلام على الدف في المدينة المنورة وصولاً رلى حلب وعشرات الحواضر الاسلامية.. ألم يذكر «ابن حزم» الأندلسي في القرن العاشر للميلاد أن الاحتراف الموسيقي رافق نمو الحضارة العربية الاسلامية في المدن بشكل خاص؟ فقد دخلت إلى الموسيقا العربية الاسلامية تأثيرات فارسية وبيزنطية مع انصراف القيان إلى تطوير الألحان وتفعيل سلالمها الفنية.. ألم يصرح «ابن حزم» على لسان «ابن الكلبي» أن هناك ثلاثة أنواع من الغناء في لسان العرب: النسب والسناد والهزج؟.. وفي كتاب «الأغاني» للأصفهاني سرد مفصل لتطور تلك الفنون منذ فجر الاسلام وصولاً إلى القرن العاشر للميلاد.. ويوزع «سيمون جارغي»حياة الموسيقا العربية وفق ثلاث مراحل .. تشمل المرحلة الأولى التأثيرات الهيلينستية الفارسية بين الأعوام 226م، و057 م وتتوقف المرحلة الثانية عند العصر الذهبي للموسيقا الكلاسيكية عند العرب وتمتد من العام 057م وحتى 3521م.. تعقبها مرحلة ثالثة شهدت التجديد في حفنة من الحواضر العربية على غرار حلب ومدينة الزهراء وقرطبة في الأندلس واستمرت بالنسبة لتلك الأخيرة حتى عام 3941م.. فخلال الأعوام 066م، و057م ازدهرت في كل من مكة المكرمة والمدينة المنورة صالونات فنية احتضنت دوائر موسيقية رعتها شخصيات ذات نفوذ اجتماعي على غرار «عبدالله بن جعفر».. وكانت الحفلات التي تحييها العازفتان «عزة الميلاء» و«جميلة».. مطلب أثرياء الحجاز.. أما مدرسة كل منهما فعملت على تخريج العديد من المواهب الفنية أبرزها خمس قامات ملأت العصر الأموي ثقافة شعرية موسيقية رفيعة المستوى وهي ابن مسبح وابن سريج وابن مخرز وطويس ومعبد.. عاصر الأول الخليفة معاوية 086م.. وقام بجولات إلى سورية يوبخاصة حلب بحثاً عن الألحان السريانية واليونانية والبيزنطية المتجذرة في بلاد الشام قبل أن ترحل إلى بلاد فارس حيث طوّر أساليب عزفه على العود وأدخل الرجز إلى اللحن بعد أن أُهمل هذا الأخير لصالح القصيد في العصور الاسلامية المتقدمة.. ولذن عمل «ابن مخرز» على تدشين إيقاع الرمل الجامع بين الغناء ورنشاد القصيد إلا أن «ويس» و«معبد» سرعان ماطور كل منهما هذه الألحان باستخدام الدف خلال أداء دوري الخفيف والهزج المنسجم مع الرقص.. ولقب «طويس» صاحب الغناء المتقن في حين أُطلق على «معبد» لقب أمير الطرب أيام الخليفتين عبد الملك بن مروان والوليد بن يزيد.. هذا وتميز «معبد» بإحساسه الشاعري وبكونه أسس لمبادىء الأصوات كما كانت المقامات في نهاية القرن السابع وومطلع القرن الثامن للميلاد.. ألم يحمل «معبد» اسم مؤسس السبعاويات؟ شقت تلك الأصوات الطريق أمام قيام «الدبيت وهو شكل شعري خلدته رباعيات «عمر الخيام».. وليتقلص يومئذٍ استخدام المزمار والربابة مع سطوع نجومية آلات أكثر نبلاً كما دعاها المؤرخ «سيمون جارغي» على غرار« العود» والدف،والمعزف،والطنبور،والمندولين ،والقانون، والسنطور، والكمنجة.. ومن الضروري الإشارة إلى دور تلك الآلات الموسيقية في صناعة العصر الذهبي للموسيقا العربية في ظل حكم العباسيين (بين 057م و3521).. فما أن غدت بغداد عاصمة جديدة للخلافة الاسلامية حتى وصلت تلك الموسيقا إلى أوجها مع اتساع رقعة الدولة شرقاً جنوب آسيا وغرباً بلاد الأندلس تناقل أخبار الملحنين الذين شكلوا طليعة الموسيقيين في بلاد العرب والعجم كل من الأصفهاني والمسعودي و ابن عبد ربه في الأغاني ومروج الذهب والعقد الفريد.. ولعل أشهرهم ابراهيم الموصلي وابنه اسحق.. وقد أصبح هذا الثنائي من أقرب ندماء خلفاء بني العباس.. وكان الموصلي من المعجبين بسلفه «معبد».. عمل على تحديث الموسيقا العربية حتى اعتبره المستشرقون عراب فنونها الكلاسيكية. برع «ابراهيم» في العزف على العود بشكل أساس .. قربه كل من الخلفاء المهدي والهادي وهارون الرشيد ليؤسس مدرسة خاصة بتعليم وتخريج القيان المحترفات للغناء والعزف.. طبقت سمعة صالونات تلك القيان أقاصي المعمورة وذلك لتمتعهن بقدرة على العزف والغناء وأداء الأدوار بصوت رخيم أخاذ إلى جانب الذكاء والموهبة الأدبية.. ومن أهم خريجات مدرسة الموصلي اللواتي سرن على طريق المعلم :«عنان» و«عاتكة» و«دنانير» و«محبوبة».. ولئن ترك «ابراهيم» الأب أكثر من تسمئة لحن إلا أن ذيوع صيت ابنه «اسحق» سرعان ما فاق سمعة والده.. ومن الأسماء التي لمعت أيام ابراهيم الموصلي هناك «منصور زلزل الذي أضاف وترين إلي العرد و«برصومة» عازف الناي.. وشارك هذا الثنائي «عاتكة» معلمة الضرب على العود والعزف المنفرد في تدريب «اسحق» ليغدو ملحناً موهوباً متميزاً.. استخدم «اسحق» نظرية «أقليدس» ليطور سلم الموسيقا العربية إلى جانب تثبيته ألحان مقامات حظيت بشعبية كبيرة من خلال إدخاله أساليب جديدة على تقنيات والده.. ولايزال أسلوب «اسحق» أكان على صعيد التلحين أو الأداء متبعاً في العديد من البقاع العربية.. ألم يكتب صاحب الأغاني حول هذا الموضوع قائلاً: «لم يطرأ أي تغيير جوهري على فن الموصلي.. كل ما أضيف إلى موسيقاه لايتجاوز القشور الخارجية..؟! المراجع: «تاريخ الموسيقا»: برنار سامبينيول .. دار المطبوعات الجامعية في فرنسا. - الموسيقا العربية : سيموني جارغي.. عن دار المطبوعات الجامعية في فرنسا.
|